شعار قسم مدونات

المؤامرة.. نظرية الوهم

Blogs-مجلس الأمن

من منّا لم يسمع بمصطلح "نظرية المؤامرة"؟! الكلمة التي يرددها الجميع عند كل مصيبة تقع في عالمنا العربي والإسلامي. كانت تطلق على المصائب الكبرى كالحروب أو اغتيالات الرموز أو نشر الفساد بين الشباب، إنما مع كثرة استخدامها اقتنع الناس بها فعلًا فأصبح السبب جاهزًا لكل سوءٍ نحن فيه. العالم كل العالم شُغله الشاغل تخريب حياتنا بكل تفاصيلها، تدمير بلداننا وتشتيت أذهاننا وإشغالنا بأنفسنا، "هُم" يريدوننا في مؤخرة الأمم دومًا ويخشون أن نستيقظ يومًا ما، خوفًا من "المارد" الذي إذا استيقظ قضى على حضارتهم المزيفة!

    

لا أبالغ في كلامي إطلاقًا فهذا أقل ما اقتبسته من عباراتٍ كثيرة تصف حال الأمة وسبب فشلها وتراجعها. لكن، لماذا لم نسأل أنفسنا يومًا أين نحن؟ ما دورنا في هذه اللعبة الكبيرة؟ كيف نعرف الداء ولا نبحث عن الدواء؟! لماذا لم نواجه ونغيّر أو نتغيّر؟ ما الذي يمنعنا من عدم الاستجابة لخططـهم؟ وقبل كل ذلك من "هُم"؟ قد تكون إحدى خصال البشر حب الكمال وإلقاء المسؤولية على الآخر، وإن لم يكن هناك آخر.. فلا مشكلة نصنع آخر مجهولًا، فهذا يضيف بعض الإثارة، يمكننا حينها تضخيمه وإعطائه قدراتٍ خارقة تجعل ضعفنا أمامه طبيعيًا.

        

لكن الحال الصعب الذي وصلنا إليه يحتاج منّا أن نجيب عن الأسئلة بصدق وجُرأة، فعقود مرّت على تخلفنا والمقولة تزداد انتشارًا حتى أصبحت فكرة التغيير مستحيلة، خصوصًا بعد تجربةِ استفاقةٍ وتغيير تمثلت في "الثورات العربية" التي أوصلت الأمل فينا إلى أبعد حدود إلا أن انكسارها وفشلها والدماء التي أغرقت عالمنا العربي بعدها وإرجاع السبب في هذا أيضًا إلى "التآمر عليها" دفع بكثير منا إلى الاستسلام الكامل وتحويل النظرية إلى حقيقة.

  

الأمم الواعية الباحثة عن مصالحها والمهتمّة ببقائها وتطورها تسعى دائما إلى اغتنام الفرص المتاحة بكل الوسائل
الأمم الواعية الباحثة عن مصالحها والمهتمّة ببقائها وتطورها تسعى دائما إلى اغتنام الفرص المتاحة بكل الوسائل
      

يعيد البعض سبب شُهرة المقولة وانتشارها إلى كثرة استخدام رجال الدين لها وإسقاط بعض الأحاديث النبوية على كلامهم لإثباتها، وأبرزها الحديث الشهير الذي يُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل..".

       

يُقدَّم هذا الحديث وكأنه إثباتٌ لحقيقة المؤامرة وأن ما يحصل لنا ما هو إلا تنفيذٌ لما جاء قبل ١٤ قرنًا. لكن، لماذا لا نقرأ الحديث بطريقةٍ مختلفة، وأن نسلم بأن تداعي الأكلة إلى القصعة هو أمرٌ طبيعي وفطرة بدأت منذ وُجدت البشرية، وأن اللافت والرسالة منه هو تعليق أحد الصحابة على الموضوع "ومن قلةٍ نحن يومئذ؟" وهنا كان التساؤل؟! أين نحن؟ ما دورنا؟ ما الذي سيسمح لأي أحد أن يأكلنا بسهولة؟ وكان الجواب النبوي الشهير "كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل". إذًا، كل القضية "نحن" وليس "هُم"، حين نتحملُ مسؤولياتنا بصدق ونأخذ قرارًا بأن نكون مُنتجين، ناجحين، فاعلين، إيجابيين في كل شيء بدءًا من تفاصيل حياتنا اليومية البسيطة وصولًا إلى أكثر القرارات مصيريةً لن تستطيع أي مؤامرةٍ أن تنجح -إن وُجدت-!

       

"هُم" لم يمنعونا يومًا من أن نبني مناهج تعليمية جادّة ولم يمنعوا أستاذًا من تأديةِ واجباته التربوية والتعليمية دون تقصير، ولم يعترضوا طريق شابٍ في أن يقرأ أفضل طرق بناء الأسرة والزواج الناجح وتربية الأبناء قبل الإقدام على الخطوة الكبيرة التي يبنى عليها كل شيء في المستقبل! هم أيضًا لم يسحبوا من بين أيدينا الكتب العلمية والفكرية والأبحاث العبقرية التي أصبحت متاحة بالمجان على الإنترنت الذي صنعوه "هم" بأنفسهم واستخدمناه نحن أسخف استخدام! 

  

لا نستطيع أن ننكر أن هناك من يستغل نقاط ضعفنا ويضع خططاً لذلك وينفذها فعلاً. ولكنه ينفذها غالباً بأيدينا!

هم لم يشجعوا مسؤولًا أو حاكمًا على السرقة ولا الكذب ولا قتل المعارضين ولا على الهرولة إليهم وإعطائهم كل شيء كي يبقى على كرسيّه، كما أنهم لم يدفعوا ناخبًا إلى نسيان مستقبل أولاده وبلده وأمته واختيار مرشحٍ ما فقط، لأنه ابن طائفته أو حزبه أو لبضع دولارات أو كارتونة معونة قبل الانتخابات، ولم يمنعوا آخرين من السكوت على حقهم بالانتخاب أصلًا واختيار حاكمهم والقبول بمن لا يملك أي صفات الحكم فقط لأنه ابن العائلةِ الحاكمة للدولة! هم لم يدفعوا رجل دين لإصدار فتاوى تمنع التقدم والتطور وإعمال العقل والتراجع عنها ببساطة وكأن شيئًا لم يكن، ناهيك عن التدخل بتفاصيل تُشغل الناس وتزيدهم تخلفًا إرضاءً لتوجهٍ ينتفع منه أو سلطانٍ أمره!

        

في المقابل، تجارب كثيرة أثبتت أن كل فردٍ هو المسؤول عن نفسه وكل شعبٍ هو من يحدد خياراته لا سواه، فقرار اليابانيين بالنهضة بعدما تعرضوا لأكبر كارثة حلت بالبشرية "القنبلة النووية" لم يمنعهم عنه أحد، والأوروبيون بعدما حاربوا بعضهم البعض لسنواتٍ وخلفوا عشرات ملايين القتلى، بالإضافةً إلى الدمار الهائل لم تستطع قوة منعهم من إحداث أكبر نهضةٍ اقتصادية وفكرية وعلمية في التاريخ الحديث، ومؤخرًا كانت مبادرة الأتراك في التحرك ومواجهة محاولةٍ للانقلاب على قرارهم وسلبهم حريتهم التي صنعوها بأيديهم ووعيهم.

      

أكبر دليل على ضعف أي إرادة أمام إرادتهم، وما زاد في كفري بهذا المصطلح -بعد إيمان طويلٍ كما الكثير منا- تعرفي على شعوبٍ ليست بعربية وبعيدة كل البعد عن الإسلام، ضُعف أفرادها وانشغالهم بالسخافات فقط وضيق أفق تفكيرهم في ظل وجود قدرات كبيرة وموارد لا حدود لها في متناولهم، أدى إلى ذات النتائج التي وصل إليها عالمنا العربي والإسلامي، فهل هؤلاء أيضًا ضحايا مؤامرة؟!

         

ليس بغريب أبدًا على الأمم الواعية الباحثة عن مصالحها والمهتمّة ببقائها وتطورها أن تسعى لاستثمار نقاط ضعف الآخرين واغتنام الفرص المتاحة بكل الوسائل، ولن يردعهم عن ذلك أخلاقٌ ولا اعتبارات سطحية، فهل ننتظر من الولايات المتحدة مثلًا أن تتفرج من بعيد على مخزون العرب الخيالي من النفط والثروات الهائلة الأخرى وهي تُهدر بأيدي أصحابها الضعفاء؟! وهنا لا نستطيع أن ننكر أن هناك من يستغل ذلك ويضع خططًا وينفذها فعلًا. ولكنه ينفذها غالبًا بأيدينا، بل وإنني أكاد أجزم أننا نقدم لهم أحيانًا هدايا ثمينة من الصراعات والنزاعات والاستدعاءات التي لم تكن في بالهم وهم بالطبع يسعدون بهدايانا ويصفقون لنا من أجل المزيد!

        

إن كانت "المؤامرة" حقيقة.. فهي حقيقة أننا نتآمر على أنفسنا دون أن ندري، وأننا أوغلنا في التآمر حتى صدّقنا كذبتنا وتعايشنا معها، ولن يتغير الحال سوى بالاستيقاظ من هذا الوهم والبدء بالعمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.