شعار قسم مدونات

البلاد ليست سوا معزوفة

Blogs- town
هل حدث ورأيتَ الألوان واحدة؟ الوجوه على اختلافها ترسو بك إلى وجهٍ واحد؟ الإنسان ذاته في ذواتٍ كثيرة؟ استيقظتَ في صباحٍ ما ووجدت قلبك بأسوارٍ من المطاط كالثقبٍ الأسود يبتلع المارّة، زجاجات الرمل، أسواقها، جدرانها العتيقة، فما تلبث ذاكرتك إلا أن توثِّق اللحظة بلحظتها، المكان وما يضجّ حولك من أصوات، فتطوي صفحات قلبك بحذر وتمضي في مسعاك؟ ودون أدنى إدراكٍ منك ستجد قلبك يشير إلى هذه وتلك وهذا والجميع.
       
يصيبك كل هذا وأكثر حين تجذبك التفاصيل وتأخذك الدهشة فتتجوّل في مدينتك بين أزقتها، في زحامها، وعلى أنغام ضجيجها، فتجدكَ ذات حنين تحارب ظروفك والمسافات، تُناجي لتعيدك الأقدار إلى أعتابها، تائباً أنهكه الغياب، تشكي تأرجحكَ، اهتزاز الأرض من تحتك، فهي وحدها تفكّ شيفرة اتّزانك وبين يديها يزول السأم، طبيبك الأوحد، طوق النجاة وعلى ضفافها يكون الخلاص. فما كانت إلا الحنون، وما في لبّ قسوتها إلا كلّ لين!
               
ولأنني أمجّد عبادة تأمُّل الأشياء والإنصات لها بكل جوارحي، فأعيشها بأقصى ما لديّ من حياة، وأضيفُ ملعقةً من الصمت الذي هو أقرب للخشوع، كنتُ أتأملها سيدة لا بل عائلة من أربعة أفراد، هي والرموز الثلاثة خاصتها في مواضع هي وحدها انتقتها، ليست غريبة أطوارٍ كلّا، لا لم تتحرّك كثيراً لتقول أنها في المكان، لم تصدر أدنى صوت أو ضجة لتثير انتباه الجميع، كانت موجودة وكأن المقعد يشير أن هي تشغلني بكل ما لديها من حضور، كانت أشبه بنصبٍ تذكاريّ، يتكلّم حتى في صمته، يشي بأنّ هناكَ هنا، كانت تحمل رموزاً وطنية لبلادها معها، تكوّر شعرها الأجعد برباطٍ يحوي علم بلادها، وفي يد حقيبتها شعار ذات البلاد أو ذاتها هي لا فرق، ولم تنتهي بعد، فرقبتها أيضاً تحمل ذات الرمز لذات البلاد وكأنها تقول هنا أنا، وهنا بلادي معي حاضرة.
                       

البلاد ما هي إلا معزوفة يتناغم بين حدودها الاختلاف في مسامعنا وعلى مرآنا، حتى وأنتَ في الزحام يُطربك تغيُّر اللهجة بين الخطوة والأخرى
البلاد ما هي إلا معزوفة يتناغم بين حدودها الاختلاف في مسامعنا وعلى مرآنا، حتى وأنتَ في الزحام يُطربك تغيُّر اللهجة بين الخطوة والأخرى
    

وبطريقةٍ لا أفهمها ألبستها شطراً قرأته لمصطفى صادق الرافعي يقول فيه "أيُّ البلادِ رأى لم يُنسهِ الوطنا" إن غفلت عن الوطن فالكلُّ معها يذكّر، تسيّج شعرها بعلم بلادها وكأنها تقول له -أن صبراً سيُفكُّ أسرك هواء البلاد وعلى ثراها ستكون حرّاً- تزيّن يد حقيبتها برمز بلادها لعلّ الذكرى تطفئ ما أشعله الحنين، لعلّ اللُّقيا تدنو لتروي عطاش القلوب، وكم وددتُ لو قلتُ لها: ما حاجتك بكل هذه، يا أنثى تحملُ تفاصيل البلاد في كلّها، في ملامحها، في لون عينيها، بين كفيها وشعرها الليلي! مثلُ هذا المشهد يرطّب منكَ الفؤاد، يرويّ ظمأ عينيك، ويكفل ابتسامتك طيلة يومك المتعب!

               
ثمّ ما هي البلاد سوا معزوفةٍ يتناغم بين حدودها الاختلاف في مسامعنا وعلى مرآنا، حتى وأنتَ في الزحام يُطربك تغيُّر اللهجة بين الخطوة والأخرى، يُطربكَ اختلاف الوجوه، الألوان والبسمات، الأفكار والتطلُّعات، وكأنك جزءٌ من مشهدٍ بطوليّ تأبى مغادرته فيعلق في حنجرتك، بين ناظريك ويطبعهُ على جبينك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.