شعار قسم مدونات

ماذا فعل النظام الدولي ببنغازي؟

blogs بن زايد و حفتر و السيسي

فجر الخامس عشر من فبراير من عام 2011م، دوّت صرخةُ "أيمن" ورفاقه أمام مديرية أمن بنغازي بأهزُوجَة تردّد صدى صوتها على بعد ألف كيلومتر، حيثُ باب العزيزية في طرابلس العاصمة حيثُ مقرّ إقامة القذافي.

"نوضي نوضي يا بنغازي جاك اليوم اللي فيه تراجي"، على وقْعِ هذه الكلمات في بنغازي، والتي رُكّبت على حين غرّة، وهي تحمل في طَيّاتِها بشارةً لمدينة طالما عانت من ظلم طاغية جثم على صدر أبنائها 42 عاماً، لم تكن فيها ليبيا مقصدٍ لطالب علمٍ أو طالب شفاءٍ أو منتزهاً لسائح، بل كانت وكراً للتآمر، تُبشّر الكلماتُ في طيّاتها المدينة التي عَانَا مثقفُوها ومبدعُوها وعلماؤُها وشعراؤُها وحتّى معلّمُو القرآن الكريم، بحلول اليوم الموعود، واليوم الذي طال انتظارُه.

على صَدَى هذه الكلمات التي ردّدها من رفضوا ظُلما أن يُسجن "فتحي" ورفاقُه، فقط لأنهم أرادوا أن يكونوا كـ (تونس ومصر)، قامت مدينة بنغازي ولم تقعُد حتى اجتثت طاغيةً حكم البلاد بالحديد والنار، لا لعام ولا لعقد بل لقرابة الأربعة عقود. هكذا كنّا نظنُّ على قِصَر نَظَرِنَا، ظنّنا صوت تلك العبارة التي تبشّر بالخلاص سيقلقُ من يبعدُ عنّا ألف كيلومتر، طرابلس تحديداً، لكننا كنا مخطئين، فَصَدَاهَا قَضّ مضاجِع أُخَرْ.

أدرك النظام الدولي أن بنغازي ستسير بليبيا للدولة الحرّة في قرارها، والحرة في خَيَارِها، لمّا رأوُا المؤسّسَات الخيرية في ليبيا بعد القذافي

عشيّة الثالث والعشرين من أكتوبر من عام 2011م ومن وسطِ بنغازي، أعلن المجلس الوطنيّ الانتقالي الليبي تحرير البلاد من القذافي وكتائبه، وكان للمجتمع الدولي شرفُ المشاركة في "حماية المدنيين" في ليبيا كما أسْمَوْهَا يومئذٍ.

تحرّرت البلادُ وانطلقت بنغازي التي عانت من قتلٍ لمثقفيها في ساحات الملاعب الرياضيّة وشنق لطلابها وسط جامعتِهِمُ التي سُلِبت حتى من اسمها ونسبتها للمدينة، فكانت جامعة "قاريونس"، بدلاً من جامعة بنغازي، انطلقت المدينة ترمّم نفسها بأيدي أبنائها، منْهم من يرمّم البنيانَ ومنهم من يرمّم الأخلاق والقيم وينشر الثقافة والمدنيّة، حتى كان لأبناء المدينة شرف إقامة أول انتخابات حرّة في ليبيا منذ عقود سيطرت فيها هطرقات وأمزجة العقيد فكنا نخاف حتى من مجرد حلم بانتخابات طلابية، وكانت المدينة على موعد يوم 19 مايو 2012م، مع انتخابات المجلس المحلي، وكانت المدينة يومها عروساً ليلة زفافها، وقد شارك الجميع في العرس الانتخابي، وقد كان الإقبال كبيراً جدّاً.

وهنا برز دور مراكز تحفيظ القرءان الكريم كونها منارات يهتدي بها الناس، فشاركت "الخلوات" كما تسمّى في ليبيا في تشجيع الناس على المشاركة في الانتخابات بل وحثّهم على اختيار من يرونهُ صالحاً مُصلحاً، وكان قدوة المحفظين ومعلّمي القرءان الكريم في ذلك فضيلة المفتي الدكتور الصادق الغرياني -حفظه الله- وهو يشارك في كل عملية انتخابية ويشجع على ذلك.

هنا كان رجع صدى صوت "نوضي نوضي يا بنغازي جاك اليوم اللي فيه تراجي"، في آذانِ من لم يروْنا إلا مجموعاتٍ من البشر تعيش على الهامش، لا يُخشى شيءٌ منهم إلا إذا تحرّروا وارتبطوا بدينهم وبعلماء ربانيين يفهمون دينهم بشُمُولية.

هُنا أدرك النظام الدولي أن المدينة ستسير بليبيا للدولة الحرّة في قرارها والحرة في خَيَارِها، أدركُوا ذلك جيّداً لمّا رأوُا المؤسّسَات الخيرية في ليبيا بعد القذافي، وهي تنخرُ عباب صحراء إفريقيا حفرا للآبار، وفِكَاكاً للغارمين، ونشراً للمصاحِف، لما رأوُا المؤسّسات المدنيّة في ليبيا تقيم النّدوات وتستضيفُ المفكّرين، وتَنْتَشِرُ فيها ثقافة الديمقراطيّة والحريّة والمدنية، وممّا زادَ من خوفِهِم، كون تلك الخلوات التي لطالما شوهها الطغاة على مر الأزمان، لم تسلك منهج التكفير يميناً ولا منهج التبديع يساراً، بل كانت منارات حقيقية.

فكان الردُّ بعمليّة أسْمَوْها عمليّة الكرامة! ظاهرها فيه الخير، وبَطِانُهَا من خَلْفِهَا المأساةُ والنزاع، بدأت بمحاولة فاشلة لتجميد الإعلان الدستوري، في العاصمة طرابلس صبيحة الجمعة 14 فبراير 2014م، أعلنها السبعيني المتقاعد أسير الحرب خليفة حفتر. ثمّ انتقل الدّاء لبنغازي صبيحة جمعة أخرى 16 مايو 2014م، فاستيقظَ أهلُ المدينة على أزيزِ الطائرات والمدافع التي لم تزل حتّى اليوم تنخر شجرة بلدٍ أهلكه تمزّقٌ لنسيج اجتماعي كان أهمّ مميّزاته.

أحالتْ غُرفة العمليّات الدّولية، أحلام الآلاف الذين خرجوا طلباً لاسترداد كرامتهم المهدورة وأموالهم المنهوبة إلى فوضى دمٍ، كالّتي كانت قبل الثورات
أحالتْ غُرفة العمليّات الدّولية، أحلام الآلاف الذين خرجوا طلباً لاسترداد كرامتهم المهدورة وأموالهم المنهوبة إلى فوضى دمٍ، كالّتي كانت قبل الثورات

تدرّج النظام الدولي بعملية الكرامة ولم يطلقها طِفلاً، بل ربّاها في حضنه ليهيّئ لها الظروف، من تجهيز للخونة، وبثٍّ للفُرْقَة بين أبناء المدينة، باغتيال هُنا وآخر هناك، وقنواتٍ مأجورة تبثّ من دولٍ جارة وتتلقّى تمويلها من حكّام تلك الدول، تبث سموماً على هيأة أخبار، وتروّجُ لإشاعاتٍ على هيأة نَصائحَ، وكَان كل ذلك تحت بند الشيء الذي لم يعثر له على تعريف "الإرهاب"، وكان لمراكز التحفيظ الحظ الأوفر من هذه التهم وهذا التشويه.

راديو لقناةٍ إماراتيةٍ يعملُ في بنغازي على موجة FM وقناةٌ إماراتية أرضيّة، وصحفٌ توزّع مجاناً، قنوات ليبية تبثّ من مصر بعد انقلاب 30 يونيو 2013م، وأخرى من تونس، وثالثة من الأردن، قنوات لأتباع القذافي تكرر ما تقوله قنوات الانقلابيين، وأخرى تابعة لأنصار التّجمع الفيدرالي تكرّر ما يقوله العلمانيون والليبراليّون، وليتهم كانوا علمانيين أو ليبراليين بحقّ، بل كانوا مجموعات من المرتزقة الذين تمّ شراؤهم بأموالٍ سعودية – إماراتية، لسبّ الثورات ولعنها وتشويهها، ولعنِ وتشويه كل من يقف مع الشعوب العربيّة في مطالبها سواءَ كانوا حُكوماتٍ أم منظماتٍ أو حتى شعوباً، وما الشعب القطري عنا ببعيد.

الفرق الوحيد في مشْهدِ الدَّمِ الآن هُو أن مخابرات الثورات المضادّة، كانت تقتل الآلاف في صمت ودون إثارة ضجيج، أما اليوم فالقتلُ على المكشُوف

واستمر العبث وانتشرت الفوضى، ودبّ الخلاف بين الناس، واستمرّ التحريض من الجناح الديني للثورات المضادّة المتمثل في "السلفية المداخلية"، وذلك باستعمال المنابر للتحريض على مساجدَ بعينها، وراديوهات الانقلابيين تستضيفهم وتقدّمُهُم على أنهم عُلماء، ثمّ تقومُ المخابرات التي كانت تجري من المدينة مجرى الدم، باغتيالٍ لأحدهم، لِيُتّهَمَ خصمهُ باغتيالهِ، وهكذا حتى أضحَت بنغازي جاهزةً، واستوت الطبخةُ، فأطلّ الخامسُ عشر من أكتوبر من 2014م برأسه وهُنَا بدأت المأساة.

كأنّ جيش المغول دخل بنغازي، وليته كانَ للمغول، بل من أهل المدينة وممّن حولهم من الأعراب، ممّنْ جهزتهم غرفة العمليات الدولية، للقضاء على مدينة ربما كانت ستقود نهضة، فاستُحِلّتِ البُيوتُ والأرزاق، وشرّد الناس، ولُوحق كلّ من شارك في ثورة فبراير من أهل بنغازي، وكان النصيب الأوفر في هذا التنكيل لطلبة الخلوات ومعلّميهم، فكانوا بين قتيل ومهجّر، وبدأتِ الحرب على قومٍ لم يقترفوا ذنباً إلا أنهم عشِقُوا الحريّة، وأرادوها مدنيّة، فلم يجدوا لهم من تهمةٍ إلا تهمةُ من لا تُهْمَةَ لَه، عديمُ التّعريف، وحجّة الضعيف "الإرهـاب"، لكنّ الليبيين اليوم جميعاً سواءٌ من صرّح بها أو من منعته الأنفة والعزة بالإثم على قولها يعلمون جميعاً أنّهم ما اقترفوا ذنبا عدا قولتِهِم تلك، "نوضي نوضي يا بنغازي جاك اليوم اللي فيه تراجي".

هكذا أحالتْ غُرفة العمليّات الدّولية، أحلام الآلاف الذين خرجوا طلباً لاسترداد كرامتهم المهدورة وأموالهم المنهوبة إلى فوضى دمٍ، كالّتي كانت قبل الثورات، غير أن الفرق الوحيد في مشْهدِ الدَّمِ هَذا هُو أن مخابرات الثورات المضادّة، كانت تقتل الآلاف في صمت ودون إثارة ضجيج، أما اليوم فالقتلُ على المكشُوف.

وهنا أقول.. لو لم تَجْنِ الشّعُوبُ من ثوراتِها سِوى هَدم حاجزِ الخوف النفسي من بطش الحُكّام وأجهزتهم القمعيّة لكفاها ذلك، وبقية الانتصارات ستأتي تباعاً مهما حاولت القوى الدولية والإقليمية وعلى رأسها "الإمارات"، مع مجاميع الغوغائيين الذين استمرئوا الذل والخنوع منع ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.