شعار قسم مدونات

لماذا لا يفوز أدونيس؟

Syrian poet Ali Ahmad Said Esber, also known by the pen name Adonis, poses for a picture during the 2016 Book Fair in Gothenburg, Sweden on September 23, 2016.Noted Syrian poet Adonis, whose name surfaces regularly as a top contender for the Nobel literature prize, says religious fanaticism is 'destroying the heart of the Arab world', but sees salvation in poetry. / AFP / JONATHAN NACKSTRAND / TO GO WITH AFP STORY BY GAEL BRANCHEREAU (Photo credit should read JONATHAN NACKSTRAND/AFP/Getty Images)
كثُرت ترشيحات الشاعر علي أحمد سعيد إسبر، المعروف بأدونيس، لجائزة نوبل خلال السنوات الأخيرة؛ وكثر معها رفض الأكاديميّة وتجاهلها له تمامًا. وهو التجاهل الذي أثار موجات مختلفة من الدهشة والسخريّة في الأوساط الأدبية وغير الأدبية. لماذا لا تمنح الأكاديميّة جائزتها لأدونيس؟ لماذا لا يفوز علي إسبر بنوبل؟ ما الذي يوجد في أعمال أدونيس يجعل الدوائر الأدبية ترشحه باستمرار، وما الذي يوجد في أعمالهِ يجعل الأكاديميّة ترفضه بإصرار؟

تعرّفتُ على أدونيس كشاعرٍ منذ عقدٍ ونصفٍ تقريبًا في مكتبة الإسكندريّة وأنا أطالعُ سلاسل أعماله الكاملة الضخمة، وأقرأها فيذوب محتواها من بين يديّ ويضيع. أذكر وقوفي الطويل أمام قصيدة "الحب جسدٌ" متسائلًا عما إذا كان يقصد فعلا ما أفهمه من تقليل قيمة المعنى في مقابل المادّة؟ وتساءلتُ أين الشعريّةِ في هذا؟ وبرغم هذا تعلّقت في خيالي هذه الصورة الشعريّة فعلا عن الحلم كحصانٍ يأخذنا بعيدًا دون أن يغادر مكانه.

ظلّت ذاكرة هذه القصيدة -مع قصائد أخرى تستخدم لغة شفرة قد لا يفهمها سواه- مرتبطةً باسم على إسبر الذي يرى نفسه إلها فينيقيًا. كنتُ أخرجُ من قصائده غالبًا بلا شيء، وأحيانًا بجملة موحيّة أو صورة متجزئة لا تعبّر عن شيء. سنواتٌ مرّت حتى قرأتُ عمله الضخم "الثابت والمتحوّل" وكتبا أخرى له. كنتُ توقفتُ عن تناول أي أعمال إبداعيّة له. في هذه الأثناء وأنا في معتكف القراءِة له تصاعدت هذه الذكرى القديمة لقصيدته العجيبة "الحبُّ جسدٌ" إذ تحوّلت –كما فهمتُ آنذاك من الثابت والمتحوّل- إلى نظريّةٍ متكاملةٍ عن تقديس الزمن والهوس بهِ كحصانٍ يأخذنا بعيدًا دون أن يغادر أحد مكانه.

كل شيءٍ في "الثابت والمتحوّل" مرتبط بالهوس الحداثي الأوروبي عن ضرورة تخلخل المعارف وتطوُّرها المهووس عبر الزمن وعدم مركزيّة أي شيء. إذ إننا يجب أن نتطوّر باستمرار ليس اعتمادًا على ما وصلنا إليه في اللحظة السابقة، وإنما عن طريق الخروج عما وصلنا إليه في اللحظة السابقة. وأي تثبيت لمبدأ ما والبناء عليه، هو من قبل الثابت الذي هو التقليد والرجعيّة التي تجذب المجتمعات للوراء، بينما الانطلاق دائمًا دون ثابت، ودون منح فرصةٍ للماضي بتقييدنا بما وصل إليهِ، وعن طريق تحويل هذه الثوابت إلى قيم ومعارف أخرى تناسب طبيعة التطور، هو المتحوّل والحداثة التي تعمل على بناء الأمم وتطويرها.

لا يقبل أدونيس الوقوف عند جماليّة الشعر الحديث لأنها معايير جماليّة ثبتت عند زمن معين ولم تعد تتطور
لا يقبل أدونيس الوقوف عند جماليّة الشعر الحديث لأنها معايير جماليّة ثبتت عند زمن معين ولم تعد تتطور
 

كانت نظريّة أدونيس الأدبيّة هي الانطلاق من قيم الجماليّة القديمة، المرتبطة بالشعريّة الشفويّة وبأسواق الشعر التي تفرض أشكالاً معينة للقصيدة حتى تعلق بالذهن (كأن تكون عموديّة مقفّاه)؛ إلى قيم الجماليّة الحديثة المرتبطة بالشعريّة الكتابية المعتمدة على تداول الشعر عبر الكتب وليس عبر الخطابة، ما يستلزم شكلاً جديدًا من الوعاء الشعري يعتمد على جماليّات كتابيّة تناسب طبيعة تداول الشعر في العصر الحالي. والحقيقة أن هذه ملاحظة رائعة وجديرة بالتأمّل فعلا، فقط إذا توقفّت عن هذا الحد. لكن أدونيس يربطها فورًا بالهوس الحداثي بالزمن. إذ يجب أن تكون قيم الجماليّة الحداثيّة مرتبطة بمفهوم التحوّل والتطور مع الزمن. وملاحظة أدونيس عن ضرورة اختلاف الشعريّة الشفويّة عن الشعريّة الكتابية تأتي أساسًا عبر نموذج فكري يعتمد ربط مرور الزمن بالحركة على سُّلم التطور صعودًا. إنه يفترض –دون أي تبرير-أن الشعريّة الشفويّة هي نموذج بدائي من الشعر بينما الشعريّة الكتابية هي نموذج متطوّر من الشعر، وهو يفترض ذلك دون أن نفهم السبب. ما الذي يجعل أحدهما نموذجا بدائيا والآخر متطوّر، ولماذا نظنّ أن مرور الزمن يجعلنا نصعد في سُلَّم التطوّر؟

هذا الفرض الأساسي يجعل أدونيس لا يقبل الوقوف عند جماليّة الشعر الحديث (الشعر الحر، أو شعر التفعيلة أو حتى قصيدة النثر) لأنها معايير جماليّة ثبتت عند زمن معين ولم تعد تتطوّر. ولكيّ ينتصر لفكرة الجماليّات الشعريّة المتحوّلة باستمرار، تحدّث كثيرًا عن القصيدة الشبكيّة، التي تكون الصور فيها سائلة وغير محددة المعالم بما يسمح بتأويلها إلى عدد لا نهائي من الصور. بالتالي هي قصيدة تقول كل شيء ممكن، أو هي في الحقيقة – كما يبدو لغالبيّة قرّاء قصائده-هي قصيدة لا تقول شيئا. وهي في الواقع –كما يؤكّد أدونيس نفسه- تكسر العلاقة بين الدال والمدلول وتُكسب الأسماء القديمة معانٍ جديدة دون أن تقول ما هي هذه المعاني الجديدة!

الأدب الذي يهتم بالإنسان بغض النظر عن مكانهِ أو زمانه، هو الأدب الذي ينطلق من الوجدان الخاص ليصيّره وجدانًا عامًا ينتمي للوجود الإنساني في هذا العالم دون عنصريّةٍ ولا بحثٍ عن مجدٍ أو عظمة

يبدو أن أدونيس كان يحاول أن يجعل نظريّتهِ عن الشعر حصانًا يأخذ الثقافة العربية بعيدًا، ولكن الواقع أنها لم تغادر مكانها بل ربما كانت تسير في عكس اتجاه الحصان. نعود الآن إلى سؤالنا الأساسي. كيف يمكن لرواياتٍ ستّ –هي كل ما كتبه الروائي الإنجليزي/الياباني كازو إيشيجورو الفائز بنوبل للآداب لعام 2017- أن تكون أثقل وطأً في ميزان الأكاديميّة؛ من الأعمال الفكريّة والشعريّة الغزيرة لأدونيس؟

ما أظنّه كقارئ نهم للشعر أن قصائد أدونيس –التي تعبّر عن نظريّتهِ هذه- هي في الحقيقة لا تعني أحدا سواه. ما الذي يحتاجه قارئ الشعر العربي من قصائد هُلاميّة تعاني من هوس العظمة وتضخّم ذات كاتبها؟ ما الذي يهم القارئ العربي في شاعرٍ لا يعبّر إلا عن نفسه المنفصلة عنه وجدانيًا والتي لا يجمعها بهِ أي وجدانٍ مشترك؟

إن ما يميّز الأعمال الأدبيّة العظيمة هي أنها ترتقي من الممارسة إلى التجريد، على عكس الأعمال الأخرى التي تهبط إلى الناس من علياء التجريد والتنظير إلى واقعٍ متخيّلٍ فلا يعرف أحد الغرض منها.
ينتمي أدونيس إلى فئةٍ من المثقفين الذين اكتسبوا أهميتهم في الشارع العربي عبر اتصالهم بالحقل الثقافي الغربي (والفرنسي بشكلٍ أكبر) إذ عادوا إلى البلاد العربيّة حاملين فيروس الهوس بالحداثة وضرورة نشره في الواقع العربي اقتداءً بالغرب، وهو ذات مرض غالبيّة الرعيل الأول من مثقفي البلاد العربية في مطلع القرن التاسع عشر. لم ينتم أدونيس ثقافيّا وشعريًا للوجدان العربي كي ينطلق منه في أعمالهِ الإبداعيّة، وإنما انتمى إلى وجدانٍ ثقافيّ يقع في الهوّة بين البلاد العربية وأوروبا، وهو وجدانٌ مختل التوازن، لم يعبره أدونيس بسلامٍ إلى وجدانٍ أكثر اتساعًا من الاثنين معًا.

في مقابل هذا انتمى الكاتب الياباني كازو إيشيجورو -الذي جاء إلى إنجلترا في عمر العامين تقريبًا- إلى الثقافة الإنجليزيّة مباشرةً ودون جدال لأنه لم يعايش غيرها، وانتمى في الوقت نفسه إلى الوجدان الإنساني، عابرًا الهوّة المميتة بين ثقافتين –كانتا متعاديتين في هذه الأثناء- ولم يسقط في الهوّة بينهما كما فعل نتاج أدونيس الفكري والأدبي، الذي كان نتاجًا سياسيًّا بشكلٍ أو بآخر.

يبدو أن الأدب العالمي الذي تبحث عنه الأكاديميّة هو الأدب الذي يهتم بالإنسان بغض النظر عن مكانهِ أو زمانه، وهو ذاته الأدب الذي ينطلق من الوجدان الخاص ليصيّره وجدانًا عامًا ينتمي إلى الوجود الإنساني في هذا العالم دون عنصريّةٍ ولا بحثٍ عن مجدٍ أو عظمة أو تضخيمٍ مفتعلٍ للذات. وهو أدب –كأدب إيشيجورو- يجذبك كمغناطيس عملاقٍ إلى عالمه فلا تستطيع الفرار. تغوص في أعماقهِ الخلّابة عاجزًا عن المقاومة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.