شعار قسم مدونات

إلى أمة كانت يوماً واحدة

blogs التعاون

"أنا سلطان السلاطين وبرهان الخواقين، متوج الملوك ظل الله في الأرضين، خليفة رسول الله وأمير المؤمنين، حامي المدن المقدسة الثلاث، مكة والمدينة والقدس، وسلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر، سلطان القسطنطينية و بورصة والأناضول ودمشق وحلب ومصر وعراق العرب والعجم والقيروان، والبصرة والأحساء وجميع ديار العرب واليمن وأذربيجان، والروملي وأرمينيا وقرمان الروم وولاية ذي القدريه وديار بكر وكردستان، وبركة والمغريس وديلان، وقيليقية وكارامان، وأرض البرير والحبشة وطرابلس وقبرص ورودس وكندية وولاية موريا واليونان، وتاتاريا وسيركاسيا ومنطقتي كاباردا وجورجيا وسهل كبشاك وكل بلاد التتر وتركستان، وكيفة والبلاد المجاورة لها والبوسنة وتوابعها وبلغراد وصربيا وكل ألبانيا وإفلاق وبلاد بغدان .."..

 

كان هكذا يفتتح خليفة المسلمين السلطان سليمان القانوني رسائله إلى ملوك الأرض، يوم كانت كل هؤلاء البلدان تخضع لسلطان واحد، يتوحدون خلفه في كيان واحد على خلاف أعراقهم وأصولهم ولهجاتهم، كانت هذه الوحدة هي سر قوتهم، هذه القوة التي تحطمت حين انحل عقد هذه الخلافة وتفتت هذه الوحدة فأصبحنا عرباً وكرداً وفُرساً وتُركاً، وأصبحنا نتنازع فيما بيننا ونضع أيدينا في أيدي أعدائنا، فلا مانع أن يكون الكيان الصهيوني حليفاً لي ضد إخواني إن كان هذا سيعطيني ما أريد، ولا مانع أن يكون العداء بين السعودية وإيران أكبر من عداء كلٍ منهما لدولة إسرائيل المزعومة، بل وصل حتى حالنا أن تُعادي السعودية من يتواصل مع إيران وإن كانوا أخوتها وجيرانها!

ما كانت النزعات الانفصالية إلا نذير خراب وضعف وحروب عرقية وصراعات يهدف كل طرف فيها لزيادة نفوذه وسيطرته ويرتضي في سبيل ذلك إلى التعاون مع العدو الذي لا يختلف الطرفان عليه
ما كانت النزعات الانفصالية إلا نذير خراب وضعف وحروب عرقية وصراعات يهدف كل طرف فيها لزيادة نفوذه وسيطرته ويرتضي في سبيل ذلك إلى التعاون مع العدو الذي لا يختلف الطرفان عليه
 

لقد كان الدين وحده هو العامل الرئيسي بل وربما الوحيد الذي استطاع أن يجمع كل هذه العرقيات واللغات المختلفة في بلداننا، يجمع الأضداد ويوحد الأنداد، لقد كان فعله كالسحر بين الناس، فما إن وطأت قدما هذا الدين العظيم على أرض حتى ذابت الخلافات وإن كانت أبدية، هذا الدين الذي وحّد بين صهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي في جزيرة العرب، وأذاب الخلافات الأزلية بين الأوس والخزرج، بل قد كان هذا الدين رحمة حتى لغير معتنقيه، كأقباط مصر النصارى الذين وجدوا في حكم هذا الدين عدلاً لهم لم يجدوه في أهل ملتهم من البيزنطيين، لقد جاء هذا الدين لينتزع العصبيات والقوميات ويحل مكانهما العدل والرحمة لكل الناس، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، وما إن ضعف هذا الدين في قلوب حامليه حتى ذابت هذه الوحدة، وتذكرنا ما يفرقنا وتناسينا ما يوحدنا، ولا نزال نعود خطوات إلى الوراء، ورجعنا نتفاخر بأنسابنا من جديد، ونتصارع كي نعود عرباً وكرداً وتركاً وفرساً بعد أن كنا كلنا مسلمين فحسب.

لا أتحدث هنا عن الجانب السياسي والصراعات المحتملة التي قد يسببها انفصال أكراد العراق، بل أتحدث عن الجانب الديني الذي أراه أكثر أهمية، فالسياسة تتغير بتغير الأشخاص، أما الدين فثابت لا يتغير، لكن بعد أن وحدنا الإسلام فرقتنا القوميات، حتى أصبح أصحاب القومية الواحدة يتصارعون فيما بينهم. فمن الصعب على دعاة الوحدة أن يروا صعود هذه النزعات الانفصالية، خاصة في وقت نرى فيه "التحالف العربي" يقصف اليمن لأن بها أتباعاً لإيران "الفارسية"، ونرى بشار "العربي" يستدعي غير العرب "الروس" لقتل شعبه العرب، ونرى دول الخليج "العربية" تتصارع مع قطر "العربية" وتحاصرها، وقد رأينا بالأمس دولاً عربية كانت في منتهى سعادتها حينما ظنت أن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا على وشك النجاح، هكذا أصبحت الصراعات بين الأخوة حين غلبت العصبيات والقوميات على روح هذا الدين الذي ننتمي إليه جميعاً.

لقد كان مفتاح التقدم في هذه الأمة هو الوحدة، فَهِمَ هذا محمد ﷺ فاستغل صلح الحديبية وجمع القبائل العربية المتناحرة حتى أصبحت كياناً واحداً، ثم فَهِمَ هذا الصِدّيق فحارب المرتدين – أو قل الانفصاليين – حتى خضعت جزيرة العرب كلها له، وحينما تم له ذلك، وفي عامين فقط، كانت جيوشه تغزو دولتي فارس والروم وتكسر جيوشهما وهما أقوى الدول آنذاك، وكذلك نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي قد أدركا هذا الأمر، فكرّسا حياتهما لوحدة بلاد المسلمين وجند مصر والشام وجمع الخلافتين (العباسية والفاطمية) تحت خلافة واحدة، وحينما تمّ لهما ذلك، تم تحرير بيت المقدس، ولولا سعي السلطان سليم الأول في وحدة العالم الإسلامي لما كانت الخلافة العثمانية لتصبح أعظم دول الأرض وما كان السلطان سليمان القانوني ليستطيع التوغل في أوروبا وفتح بلجراد وبلاد المجر وجزيرة رودس، وما كان ليكتب خطابه الشهير الذي أشرنا إليه في مطلع هذا المقال وبه هذا الشعور بالقوة الذي سخرها الله له ووضعها بين يديه يوجهها أينما يشاء وكيفما يشاء. 

لقد كان هذا الدين رحمة حتى لغير معتنقيه، وجاء هذا الدين لينتزع العصبيات والقوميات ويحل مكانهما العدل والرحمة لكل الناس، وما إن ضعف هذا الدين في قلوب حامليه حتى ذابت هذه الوحدة

على الصعيد الآخر، ما كانت النزعات الانفصالية إلا نذير خراب وضعف وحروب عرقية وصراعات يهدف كل طرف فيها لزيادة نفوذه وسيطرته ويرتضي في سبيل ذلك إلى التعاون مع العدو الذي لا يختلف الطرفان عليه. أمثلة ذلك في التاريخ كثيرة، فمن الجدير بالذكر أن سقوط القدس كان نتيجة لضعف الدولة العباسية في العصر العباسي الثاني وزيادة نفوذ الدويلات والصراع بينهم، فكان الصراع بين السلاجقة والفاطميين على القدس الذي انتهى بسيطرة الفاطميين عليها عام ٤٨٩ هـ يسبق سقوطها عام ٤٩٢ هـ في أيدي الصليبيين ولم تجد لها من منقذ! حتى إن السلاجقة أنفسهم كانوا في صراع مع بعضهم البعض، وما أشبه اليوم بالبارحة، فما كان سقوط الخلافة العثمانية إلا بوجود هذه الأفكار والنزعات الانفصالية بسبب القومية، وكأننا لم نتعلم الدرس بعد، فما كان مصطفى كمال أتاتورك إلا قومي تركي يسعى لهيمنة القومية التركية على ما سواها، وما كان "الشريف" حسين إلا الطرف الآخر الذي يسعى لهيمنة القومية العربية حتى سُميت ثورته بالثورة العربية الكبرى، على الرغم أن سلاحه كان بريطانياً ليس عربياً! هذا بالطبع بعد ما وقف هؤلاء "العرب" بصف بريطانيا وإلى جانب الحلفاء ضد الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى التي انهارت على إثرها آخر خلافة للمسلمين ولم تقم للمسلمين بعدها قائمة إلى يومنا هذا. 

هكذا إذن هي نتيجة الدعوات الانفصالية، مزيداً من الضعف والتفرق، ومخالفة لأمر الله عز وجل لهذه الأمة "وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" (المؤمنون ٥٢) الذي أتبعه بعاقبة التفرق "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ" (المؤمنون ٥٣-٥٤) فكان لنا ناصحاً ومرشداً، والخيار لنا أنرتضي به مرجعاً وحكماً أم بأهوائنا ومصالحنا الشخصية.

 

يقول الله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (النساء: 139)، فالعزة لله وبالله وحده وبدينه العظيم، وقال عُمَر: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله)، لا قومية ولا عصبية، وقال الإمام مالك: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلُحَ به أولها)، فيوم أن نرى الملوك في صفوف شعوبهم كما رأينا بلالاً وأبا بكر الصديق أخوة في صف واحد، ونرى العرب يرتضون كردياً كصلاح الدين، أو فارسياً خوارزمياً كسيف الدين قطز يتولى أمورهم بلا غضاضة، أو أميراً تركياً كمحمد الفاتح يقود جيوشهم، يومها سنرى بدراً وحطيناً وعين جالوتٍ وفتحاً عظيماً كفتح القسطنطينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.