شعار قسم مدونات

آينشتاين.. عقلٌ جبارٌ ومدرسةٌ للإيمان

blogs الكون

ما زال صاحبُ نظرية النسبِيَّةِ وبعد قرن من الزمن يبهرُ الدنيا بحدسه العلميِّ الفائق ونتائجِ أعماله المبهرة التي غطت فيزياءَ الجزيئاتِ الدقيقة وخصائصَ الإشعاعاتِ وبحثت في تكوين النجومِ والمجراتِ وبداياتِ الكون الأولى. لم يسعني عندما سمعْتُ منذ أكثرَ من عامٍ عالِمَ وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" وهو يزف للعالم بثقة عاليةٍ ممزوجة بالفرح والفخر تَمكُّنَ العلماء من اكتشافِ موجات الجاذبية التي كان قد تنبأ بها "آينشتاين" بل وتسجيلِ ما تُحدِثُ من ضجيجٍ عند وصولها لفضائنا الأرضي، لم يسعني إلا إحساسي بأن الكونَ يتكلم فعلاً إلينا من كُواهُ البعيدة وأطرافه السحيقة، بل ونسمعه هذه المرة عبرَ موجاتٍ لن تفتأَ طويلاً حتى تكشِفَ عن أسرارها وعن حقائق الخلق العظيم.

نعم، لم يزلْ كلُّ ما حولنا من الكائنات صغيرِها وكبيرها، قريبها وبعيدها، خفيِّها وجليِّها ينطقُ ولو في صمتٍ بجمال الصنعة ودقة الهندسة تنوعاً واتزاناً وانسجاماً. غيرَ أن الاكتشافَ الأخير بقدر ما يحيل عقلَ العالِمِ إلى النشأة الأولى وظواهر الرجع الذي لا ينقطع (وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ) لَيسافِرُ حقاً بروح الإنسان المؤمن إلى المنشئ الخالق سبحانه؛ وكأنَّ صدى موجاتِ الجاذبية، تلك العابرةِ بسرعة الضوء أقطارَ الكون السحيق، هو بعضُ كلِمٍ من كلمات الله التي لا تنفد عدداً ولا تنقطع مدداً.

موجاتِ الإلحادِ بلغت مداها في زمن
موجاتِ الإلحادِ بلغت مداها في زمن "ما بعد الحداثة" فعادَ القومُ  إلى ذواتهم يبحثون عن ملاذاتٍ آمنةٍ ومستقراتٍ هنيَّةٍ لأرواحهم المتعبة
 

(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)، (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً). هي كلمات الله إذن، ما إن تطرُقُ آذانَ المؤمن حتى ينتبهَ من غفلة ويتذكّرَ بعد نسيان، فيربطَ الخلقَ بالحق وقانونَ الشريعة بسر الحقيقة وظواهرَ الملكوت ببواطن الجبروت ليعود إلى الله أوثقَ عهدا وأثبتَ إيمانا وأصدقَ حبا. أما الواقف على رسوم العلم ومعادلات الرياضيات فليس له من نصَبِهِ إلا لذةُ فهم المشكلات والفرحُ بحل العويصات وكثيرٌ من الإعجاب والزهو أحياناً. ويحضرني قول الزمخشري وما أجمله:

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي .. من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طربا لحل عويصة.. هي وأحلى من مدامة ساق

لكنّ هذا العالقَ نظرُهُ بحد الشهود لا يتجاوزه لو علا بهمَّتِه فوق علمه، وفتحَ عين البصيرة من قلبه لحاز من الغيب – بشرط إخلاص الطلب- يقيناً يدله على الواحدِ في كل معدود والصانعِ لكل الوجود (هلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ). بل لو اجتهد في تحصيل العرفان اجتهادَه في كسب المعرفة لذاق من حلاوة الإيمان ما يثَبِّتُ الأقدام (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) ومِنَ الفتح ما يزيلُ الأوهام (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) فيدركَ بعين القلب إلهاماً وكشفاً ما أدركه بإعمال العقل نظراً وفهماً. وفي هذا يقول ابن عربي: (وصاحبُ الكشفِ يرى في المداد الذي في الدواة جميعَ ما فيه من الحروف والكلمات وما يتضمنه من صورٍ يصورها الكاتب أو الرسام…).

إن موجاتِ الإلحادِ التي أغرقت أوروبا والغربَ عموما في ردة فعلٍ طاغيةٍ على ظلم الكنيسة وغلوها والتي طالت مجتمعاتِ الشرق الأقصى كذلك عن غير رضىً منها كما في الغرب، لكنْ تحت ضغط ماديَّةٍ شيوعيَّةٍ تسخر الإنسان للدولة وأجهزتها جسْماً ووجدانا، قد بلغت مداها في زمن "ما بعد الحداثة" هذا، ليعودَ القومُ وقد أنهكهم التكاثر وأسَرتْهم التكنولوجيا وأكلتهم اللذةُ والشهواتُ إلى ذواتهم يبحثون عن ملاذاتٍ آمنةٍ ومستقراتٍ هنيَّةٍ لأرواحهم المتعبة.

 

إن استغلالُ الدين لشيطنة المخالفين وتشويهُ التدين باختلاق وحوش تعيث باسم الله فساداً وتدميراً لا يخدم إلا قُوَى الإلحاد الظاهر منها والخفي
إن استغلالُ الدين لشيطنة المخالفين وتشويهُ التدين باختلاق وحوش تعيث باسم الله فساداً وتدميراً لا يخدم إلا قُوَى الإلحاد الظاهر منها والخفي
 

هكذا انتعشت في الغرب على صعيد السياسة أحزابٌ محافظة تصلُ أفكارها ورؤاها بتراثها الديني المسيحي، تنتقي منه ما تشاء للرد على خصومها في قضايا المرأة والأخلاق العامة والهجرة والتنوع الثقافي؛ وانتظمت فئاتٌ من الناس في جماعاتٍ وأنديةٍ منغلقة تحدِّدُ لروادها طقوساً ومجاهداتٍ أملاً في الخلاص والسعادة؛ بينما ولّى أناسٌ آخرونَ وجوههم بل قلوبهم شطْرَ ديانات الشرق كالبوذية مثلاً وإلى التصوف الإسلامي تحديداً أحبوا فيه انفتاحَه ونهجَه التربوي ومددَه العاطفي وانسجامَه مع المسؤولية المتمثلة في تطبيق أحكام الشرع والتي تتحقَّقُ غاياتها ومعانيها في مدارج الإحسان التي يعرج فيها المريد الطالب.

إنه عطشُ الروح بعد طول ظمأ، وعودةٌ إلى الإيمان بعدما العقل صبأ. توبةٌ إلى الدين لعلَّها تجمعُ ما اختلف وتلُمُّ ما افترق في دائرة الرحمة الواسعة وحِمَى الإخاء الإنساني والعيش المشترك. أما استغلالُ الدين لشيطنة المخالفين وتشويهُ التدين باختلاق وحوش تعيث باسم الله فساداً وتدميراً فلا يخدم إلا قُوَى الإلحاد الظاهر منها والخفي؛ تفصِلُ الإنسان عن خالقه وعن الغيب لتجعله آلةً للسخرة والاستهلاك ولقمةً سائغة لغيلان الثروة والقهر من أبناكٍ وشركاتِ أسلحةٍ ومؤسساتٍ تجاريةٍ عظمى لا تأبَهُ بسعادة الإنسان في الدنيا ولا يهمُّها خلاصه في الآخرة! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.