ثمّة دولُ قد سنّت قوانين ذات طابع إقصائي الهدف منها بيّنٌ: منع أفراد الأقلية من الحصول على بعض الحقوق والحريات التي يتمتع بها أفراد الأغلبية |
إنّ فهم طبيعة الحركات الانفصالية في العصر الحديث وأسبابها وتداعياتها يستوجب بالضرورة البحث في الإرهاصات التاريخية التي حفّت بهذه الظاهرة. والبحثُ في التّاريخِ يكشفُ عن خارطة جيوسياسية متغيّرة، متقلّبة. فقد كان للحركات الاستعماريّة بليغ الأثر في رسم خارطة العالم كما نعرفه اليوم. تلك التقسيمات التي كانت تحقيقا لمطامع إمبريالية فُرضت على الشعوب قسرا، وغيّرت ملامح المجتمعات وخلقت مجتمعات جديدة فيها من الاختلاف والهشاشة من القدر الكبير.
ثُمَّ إنّ المتغيّرات والأحداث السياسية والعسكرية التي شهدها القرن المنصرم أدّت إلى ظهور قوى جديدة سرعان ما انتهجت سياسة التّوحيض بهدف التوسّع وتدعيم النفوذ في مواجهة القوى الأخرى ذات الثقل على السّاحة. خيرُ مثال على ذلك هو الاتحاد السُّوفياتي. ومع انهيار هذا العملاق السوفياتي انفصلت بعض أجزائه عن البعض الآخر. إلاّ أنّ التّاريخَ يبيّنُ دائما أنّ لكلّ توحيدٍ او انفصالٍ ثمَنٌ باهض، ذلكَ أنّه توجدُ دوما فئة تكون هجينة من حيث انتمائها، اذ أنها تتبع الأغلبية والأقليّة في آن!
ما يحدثُ حال عمليّة التّوحيد غالبا هو تهميش الأقليّة وإقصاؤها واعتماد سياسات النبذ تجاهها. وتذهبُ بعض الدول إلى أبعد من ذلك إذ قد تعمدُ إلى محو هوية الأقلية والقضاء عليها في محاولة منها لصهرها في الأغلبية وكأنها عبءٌ وجب رسكلته أو تبديدهُ نهائيا! من بعض تجليات هذه السياسة مثلا منع تعليم اللغة الأمّ للأقلية لأبناء أفرادها وإلزامهم بتعلّم لغة الأغلبية، مثلما كان يحدث مع أكراد سوريا قبل الحرب الأهلية وغيرهم. كذلك قد تتجه بعض الدّول إلى منع الأقليّة من ممارسة معتقداتها الدينية،ءخوفا منها على عقائد الأغلبية! وثمّة دولُ قد سنّت قوانين ذات طابع إقصائي الهدف منها بيّنٌ: منع أفراد الأقلية من الحصول على بعض الحقوق والحريات التي يتمتع بها أفراد الأغلبية، ويشمل ذلك ميدان العمل السياسي ومرافق الصحة وحتّى الولوج إلى الوظيفة العمومية. وكأنّ أفراد الأقليًة مواطنون من درجة ثانية!
بيدَ أنّ أخطر ما قد تتعرّضُ إليه الأقليّة هو الإبادة التي تعرف بكونها القتل الممنهج لأفراد الجماعة (الأقلية)، وهو ما قد وقع بالفعل لمسلمي البوسنة والهرسك، ومسلمي الرّوهينجا في ميانمار.
كُلُّ هذه الأعمال مجتمعة تميطُ اللثام عن سياسات يائسة تحاول إما دمج الأقلية في نسيج مجتمعي معيّن قسرا أو هي تحاولُ الإبقاء على هذه الأقليّة كعامل قوّة ونفوذ لما توفره من امتداد جغرافي للدولة وفي الآن ذاته تقصيها على المستوى الداخلي بل وتقمعها. هذه الظّروفُ وغيرها تولّد لا محالةَ حالة من الاحتقان والشعور باللاّانتماء لدى الأقلية وتجعل الأرضية خصبة لنشأة النزعة المطالِبة ببعض الاعتراف وبعض الاستقلاليّة.
قد يكون الطريق إلى تحقيق هذا المطلب دمويّا وقد يكون سلسًا. إلاّ أنّهُ وفي نهاية المطاف غالبا ما ترضخُ الدّولة إلى طلب الأقلية وتمنحها شيئا من الحكم الذّاتيّ أو الاستقلالية الجزئية أو حقّ التمثيل لدى البرلمان.. مع بعض الحقوق وكثير من الوعود ذرّا للرّماد على الأعينُ.. هُنا تتجهُ أنظارُ العالم صوب هذه الأقليّة حديثة العهد بوضعيّتها الجديدة وهُنَا أيضا تقفُ الأقليّة أمام أوّل اختبارٍ لها: أتُحسِنُ إدارة شؤونها في الحيّز الضيّق الممنوح لها أم تُراها تخفقُ!
سيُخلّف الانفصال فئة هجينة تنتمي للأقلية المنفصلة والأغلبية المنفصل عنها وستعيش نوعا من أزمة هويّة. إلاّ أنّ المستفيد الوحيدَ من الحركات الانفصاليّة ولا ريب هو العدوّ مهما كانت شاكلته |
ما يحدث غالبا هو أنّ الأقليّة تصارعُ دوما من أجل البقاء ومن أجل انتزاع اعتراف الآخر بها، وتبقى علاقتها بالدّولة دائما مشوبة بالحساسيّة والتجاذبات. الأقليّة سوف لن تبقى مكتوفة الأيدي تجاه سياسة الدولة الجائرة، الآن وقد أصبح لها صوت! إنّ المرحلة التالية ولا ريب، هي مرحلة الانفصال.
والحالة تلك، قد تسلك الدولة إلى منهج القوّة واستعمال القبضة الحديدية ضدّ الأقلية في محاولة منها لثنيها عن الانفصال، مثلما يحدث الآن في إسبانيا على خلفية استفتاء إقليم كاتالونيا للانفصال. وقد تستعر بعض الأعمال العدائية بين أفراد الأغلبية المنتصرين لوحدة الوطن والأقلية المستميتة في التحدّي وإثبات الذات، وهنا تتدخل الدولة لفضّ الاشتباكات وتُقِرَّ، تحت وطأة المجتمع الدولي، بشرعية الانفصال ثم تجبرُ على التعامُلِ مع جزء كان منها ذات يوم بكثيرٍ من مسافات الأمان وبعض الدبلوماسية. مثلما حدث على إثر انفصال جنوب السّودان سنة 2011.
وما يُفضي إليه الانفصال في نهاية المطاف هو كثيرٌ من التغيّرات والمسؤوليات. ستشعر الدولة بالضعف والوهن، وسيجابه الإقليم المنفصل معاركه وحيدا من أجل موضعة الذات وانتزاع الاعتراف به وتأسيس بنيان دولته وهياكلها. سيُخلّف الانفصال تلك الفئة الهجينة السابق ذكرها والتّي تنتمي في آن للأقلية المنفصلة والأغلبية المنفصل عنها وستعيش نوعا من أزمة هويّة. إلاّ أنّ المستفيد الوحيدَ من الحركات الانفصاليّة ولا ريب هو العدوّ مهما كانت شاكلته. لأنّ شعار الوحدة قوّة على ابتذاله، صحيح، موغلٌ في الصّحّة. ذاك العدوّ الذّي يتصيّدُ الانفصالَ ويرقبه ليُحكم قبضتهُ على هذا الطرف أو ذاك ليغْنَمَ، أو هو يصنع الانفصال أحيانا، لو تعلمُ! إيمانا منهُ بمبدأ فرّق، تَسُدْ.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.