شعار قسم مدونات

الحياة في عرض سينمائي

Blogs- city

هنا تحتَ سماءٍ دانيةٍ من هامَةِ الغياب، من شرفةٍ نائيةٍ تُطلُّ على اللاشيء، يَسيلُ لُعاب الوجع على وجهِ السطر بحروفٍ تُجالِس جوفَ القلب. في محراب الخطيئة تتهالك خطواتِه سطراً يتلوهُ سطرٌ يصبُ بلواهبِ أربعةِ حروف يليها الموت المُحتّم فيُهلوس عندَ انسِدال البصر، يُهلوس بِتّرهات كأن الآهات تُلملِم بقاياه من ضجيج تلكَ الكلمة التي أرّقت عيناه. فيسقُط جسدهُ مُعلناً الشهادة.

      

يتدلّى حبلُ الأمنيات بنصفهِ المبتور كقطعةِ حُزن، يتأرجح جيئةً وذهاباً كأنّهُ يشكِّلُ سطورَ نعوَةٍ لفقيدٍ ما.على الأرجح هناكَ إذاً حلمٌ جديدٌ قُتِلَ منذ قليل، فحُملت روحهُ على نسمةٍ من موت، فتمايل النّبض حتّى كادَ أن يستقيم .لم تُشَرّح الجثّةُ بعد، لكن على الأغلب يُقدّر سبب الوفاة ب "ضربة قَدَر". ولأنّ القدر لا يُعتبَر مُتعمّداً في القتل أُلقي اللوم كلَّ اللومِ الآن على بيتهوفن وسِيمفونيَتهِ الخامِسةَ.

      

أتساءل دائماً: ترى، ما هي اللغة التي يتحدث بها الموتى؟ حين يلتقي ميتٌ صينيٌ مع آخر من قبيلةٍ منسيةٍ على حافة نهرٍ صغيرٍ في غابة، أو في قمة جبلٍ لا يعرف مكانها سوى السحب والجليد، والبرد الذي يسكن مساءاتهم الطويلة والوحوش الضارية؟ وبأي لغةٍ يتكلم الله؟ هل سيفهمهم ويفهمونه حين تجمعهم لحظة الحقيقة، التي لابد وأنه أخفى موعدها لحاجةٍ ما في نفسه؟ بدأت نهاية الأرض، شاشةُ عرضٍ كبيرة في وسط المدينة، تعرضُ عرضاً مباشراً مُتسلسلاً للحياةِ على الأرض، كانَ يحرسها اثنينِ من كوكبٍ آخر، يشبهون الملائكة.

            

هناك خلف تلك الشاشة ُنزلٌ مهجورٌ غيرُ متاحٍ للسكنِ أو الأُجرة ،قابلٌ للانهيار في أيِّ لحظة، يستندُ على بضعِ دعواتٍ وله شقوقٌ يمرُّها النورُ 
هناك خلف تلك الشاشة ُنزلٌ مهجورٌ غيرُ متاحٍ للسكنِ أو الأُجرة ،قابلٌ للانهيار في أيِّ لحظة، يستندُ على بضعِ دعواتٍ وله شقوقٌ يمرُّها النورُ 
        

تسيرُ المشاهد بسرعةِ البرق، البشر يتزاحمون، الفصول تتابع، ظاهرة المد والجزر تزداد، أمواجُ البحرِ تعلو، يموت أشخاص ويحيا أشخاص، يزادُ عدد البشر من حقبةٍ لحقبة، أم تلد، وأمٌ تفقد أولادها، ذاكَ يبخس وذاكَ يسرق وذاكَ يُعطي، كلٌّ كُشفَ على حقيقتهِ، تتالى المشاهد وتتسلسل .الأرض تتزلزل، البراكين تُفجّر، الحربُ قائمة، البيوتُ تُهدم، يموتُ الكبيرُ والصغير، أمٌ تفقدُ ولدها، واُخرى تُفقد.. تتابع المشاهد واحداً تلو الآخر.

      

لوحظَ أنهُ في كلٍّ مشهدٍ كان يوجد نورٌ ينبعثُ من مكانٍ ما، توسلّا لبشرُ من الملكين تقريب الصورة. اتضح في النهاية أنهُ ضوءٌ كانت تحملهُ أمٌ وتضعه عند حافةٍ قبرِ ابنها لتنيرٍ لهُ عتمته. وهناك خلف تلك الشاشة ُنزلٌ مهجورٌ غيرُ متاحٍ للسكنِ أو الأُجرة، قابلٌ للانهيار في أيِّ لحظة، يستندُ على بضعِ دعواتٍ وله شقوقٌ يمرُّها النورُ ولا يجرؤ على النَّظر داخلها، نوافذهُ مغطاةٌ بالغبار وستائره مسدله على حكاياتٍ تلفُّ نفسها خوفاً من نزلةِ بردٍ قاتلة، ساعةٌ دون عقارب أوقَفت مسيرَ الزمنِ عُنوة، صورٌ بالأبيضِ والأسودِ وبضعٌ آخرُ بألوانٍ باهتةٍ أزالَ طويلُ التأملُ فيها رونقها.

        

وله في ركنٍ شجرةُ عيدِ ميلاد ٍمصفرّة وأمنياتٌ صغيرةٌ لازالت معلقةً فوقها بنصفِ بريق وبعضُ هدايا رحلَ أصحابها قبلَ أن يسرقوا لهفةَ فكِّ شرائِطها، كثيرٌ من الدُّمى فوقَ رفٍ متداعٍ يتماسك بشيءٍ من الصبر كُلها بعيونٍ مفتوحة وشفاهٍ باسمة كما شاءت لها أقدارُها، وحدها راقصةُ الباليه في عُلبتها المخملية تكملُ رقصتها بإيقاعٍ رتيبِ الملامح. في ركنٍ أخر صندوقٌ خشبي حاكتِ العناكبُ له شالاً بديعاً، ضمَّ بين جنباتهِ ثياباً لطفلةٍ مُنتظَرَة، جواربٌ وقفازات وشرائط للشعر وفساتينُ معطّرة، طاولةٌ تتربعُ في المنتصف أخفى وجهَها كثيبٌ من الورق المُصفر والغبار، رسائلٌ جهلَت وِجهتها وأخرى أدرَكت الردَّ على ما فيها فعزَفتعن رحلتها قبل أن تبدأ.

           

قصائدُ مكتوبةٌ بنبضِ قلبٍ وحبرِ دمع، تتوسدُ رؤوسَ بعضها مواسيةً تخفي بينها وصيةً لم تحظى بجمعِ كُل ما في الخَاطر لذا بقيت مفتوحةً تنتظرُ نهايةً ما، علبةُ ثقاب فارغة وصحنٌ مجوفٌ من المعدنِ اعتدتُ أن أحرقَ إصبعاً فوقه كلّما عَبَرني أحدهم وصافحني بقلبٍ أسود، وقربَ الباب بيانو دون مفاتحَ بيضاءَ أو سوداء فقد كان متاحاً لكلِّ من يرحل أن يقتلعَ معه لحناً لا يذكرني بهِ بعد رحيله، وفي الخارج قنديل ٌبرأسٍ مكسورِ يشتعلُ بمدادٍ من الدمع يوشك على النَفاذ، يُضيء بِشقِّ الأنفُسِ لوحةً معلقةّ تُظهر لعابرٍ قد يُعنى بقراءتها، لم تعد هناك مقبرة أشد واقعية من قلوبنا .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.