شعار قسم مدونات

كيف أصبحت يساريا؟

blogs كارل ماركس

منذ صغري، كنتُ أحدَ الذين يمسكون النص القرآني في يدهم، كنت أذهب أنا وأطفال الحيّ، بعد صلاة العصر في المسجد نجتمع كلٌ أمام طاولته المعدة لوضع الكتاب عليها، وأمامنا معلمنا الكبير، كنا نحترمه جداً، لدرجة أنه بمثابة الأب خارج المنزل، هكذا وكأن له قدسية روحية لا أعرف كيف أفسرها ولا زلت أعجز عن تفسير ذلك، كنا نسّمع ما حفظناه في المنزل واحدٌ تلو الآخر، وفي نهاية اليوم يعطي المعلم قطعة من الحلوى للذين أنجزوا أعمالهم، والذين لم ينجزوا كان نصيبهم الضرب على اليد خمسة مرات متتالية ثم نضحك في خفية سوياً.

استمر ذلك لسنوات عديدة، حفظت خلالها العديد من الأجزاء القرآنية، تلك النصوص المقدسة التي ترسم لك طريق ما أنت مجبر على السير فيه، هنالك أمطار بالطبع في هذا الطريق، وهنالك مجرمون عليك أن تقابلهم، وهنالك المتسامحون، والمصفقون، والهاربون من السماء، لستُ ذلك الشخص الذي كان يقرأ أي شيءٍ ويتعامل معه كما هو، كنتُ أحمقاً إلى حد لا أقوى على وصفه، كنت أتخيل كل شيء، وكنت أخاف الحديث عن هذه الأشياء التي تراودني.

الاحتلال ليس بالضرورة أن يكون تلك الجماعات المسيطرة على أرضك، لربما تكون حواجز وضعها الآخرون أمام عقلك، لتصبح قاصر التفكير، غائبٍ عن الرؤية
الاحتلال ليس بالضرورة أن يكون تلك الجماعات المسيطرة على أرضك، لربما تكون حواجز وضعها الآخرون أمام عقلك، لتصبح قاصر التفكير، غائبٍ عن الرؤية
 

كانت حياة المخيم بسيطة، تستيقظ صباحاً لتذهب إلى المدرسة، وترجع عصراً إلى المسجد، وفي المساء تحفظ ما درسته في المدرسة وما قاله لك معلم المسجد، لربما كل الأطفال في هذا المخيم كانوا يعيشون بنفس الطريقة، كان هنالك شحنة عاطفية تجاه الاحتلال، فقد كان معلمونا جميعاً يشحنونا بهذه الطاقة الثورية، حتى معلم المسجد، ولكننا وبعد سنوات أصبحنا ندرك كيف تعلمنا في الماضي أن الاحتلال، مغتصبٌ لأرضنا، أو أن الاحتلال علينا أن نقاتله لأن النص القرآني قال ذلك، الأن وبعد عشرين سنة ثمة أصدقاء يؤمنون بالفكرة الأولى، وآخرون يؤمنون بالثانية، أي أن هنالك الكثير ممن كانوا معي في تلك الفترة اليوم يعتقدون أن الصراع وطني وقضية أرض، وآخرون يعتقدون أن الصراع ديني وقضية عقيدة .

وكأي شابٍ يمر بمراهقته العشوائية، الفقيرة للمشاعر وللتجربة وللنضج، صارت الأثقال ترمى عليك من السماء وتجبرك أنت على التعايش معها كما هي، كالعباءة التي يلبسك إياها المجتمع، وكصفة الأبوية التي عليك أن تمارسها على غيرك، وصفة السلطوية التي يجب أن تتمتع بها لتصبح قوياً في محيطك، كل تلك الأشياء جعلتي أفكر كثيراً في كل شيء، إلا أنني لم أشكك يوماً في معلمي، ولم أشكك يوماُ في أن الصراع وطنيٌ كما يقول أصدقائي، ولم أتعامل معه على أنه ديني كما يقول الآخرون.

قرأت لكارل ماركس، وقرأت نظريته بتمعن، فصارت الحياة مختلفة تماماً وكأنني أرى من نافذة غير تلك التي كان الآخرون يريدون مني أن أرى منها، صار الإنسان بالنسبة إلي هو القضية الأهم

عندما وصلت إلى الثانوية العامة، قرأت كتاباً للشيخ سيد قطب، وعندما كنتُ أقرأ أدخل إلى الكثير من المعلومات التي لم أكن أدرك حينها أنها لا تصلح لمجتمعنا، صرتُ أدخل من بابٍ إلى باب حتى وصلت إلى هاربرت ماركوز، هذا الكاتب الذي قال في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، أن عليك أن تتجاوز الحواجز التي رسمها الآخرون في عقلك، وحين بدأت أكتب عن نفسي، قلتَ: إن الاحتلال ليس بالضرورة أن يكون تلك الجماعات المسيطرة على أرضك، لربما تكون حواجز وضعها الآخرون أمام عقلك، لتصبح قاصر التفكير، غائبٍ عن الرؤية.

وعلى خطى ماركوز أكملت المسير إلى دوستوفسكي ولينين وكافكا ونيتشه وآخيراً إلى يوسا، هؤلاء الذين لم يكونوا في يوماً من الأيام معلميني، ولم أرهم، ولم أحفظ ما قالوه في كتبهم لأقوله أمامهم، ولم أحظى بقطعة حلوى لأنني قرأت لهم، إلى أن وصلت إلى كارل ماركس، وقرأت نظريته بتمعن، صارت الحياة مختلفة تماماً وكأنني أرى من نافذة غير تلك التي كان الآخرون يريدون مني أن أرى منها، صار الإنسان بالنسبة إلي هو القضية الأهم، وجوهر هذه القضية هي العقل، والمحرك لها هي المعرفة، كيف لك أن تكون عظيماً أو لربما إنساناً عقلانياً على الأقل وأنت لا تعرف شيئاً في هذا العالم، وجودك ليس مرتبطاً بقدر ما أنت تريد، وجودك يتطلب منك أن تعرف الآخرين وتعرفهم على ما لديك .

في هذه الأثناء نزعت عني كل العباءات التي ألبسني إياها المحيط الذي أسكن فيه، صرت مجنوناً في تفكيري، أتصور أشياء لا أعتقد أن أحداً من الذين حولي يؤمن بها، حين قال لي أحدهم أنك كلما قرأت كلما زادت معرفتك وبالتالي كلما زادت مدارك التفكير والخيال، لم أكن أتصور أنني يوماً ما سأتخيل أن هذه الأرض التي نعيش عليها عبارة عن سيجارة ستنطفئ يوماً ما في مطفئة سماها البعض "الجحيم".

أن تنزع عنك صفات المجتمع ليس بالشيء السهل، وليس مقبولاً أن تكون مختلفاً في هذا المخيم، عليك أن تصافح مثلهم، تردد الكلام مثلهم، تجامل مثلهم، وتنافق مثلهم، أن تبحث عن النقود مثلهم، وأن تتعامل مع المرأة على أنها هاوية سرير، وأن تكون قوياً لكي يحترمك الآخرون، منطقٌ براغماتي كنتُ أؤمن به دون أن أعرفه، ولكنني اليوم صرتُ أعرف أن العباءة التي يجب أن أرتديها أو أن أشكك في ارتدائها، هي الإنسان الذي يؤمن بمبدأ واحدٍ، أن لا سلطة لأحد على مشاعره، وأن لا سلطة لأحدٍ على أفكاره، وأن عليك دائماً أن تكون كما توصل عقلك إليه.

الدين عمودٌ أصيل في هذا المجتمع وعليك أن تحترمه وأن تمارسه كما يحلو لك، لا لأحد سلطة على آخر في عباداته
الدين عمودٌ أصيل في هذا المجتمع وعليك أن تحترمه وأن تمارسه كما يحلو لك، لا لأحد سلطة على آخر في عباداته
 
إسلامي القلب نشأت وهذه تجربة صقلت لي الكثير، علمتني أن أنزل إلى البحر دون معرفةٍ بالسباحة، وعلمتني أن أنقذ نفسي دون مساعدة أحد، هكذا أصف تماماً هذه التجربة التي صقلت عقلي، وجعلتني أهرب من هذا المجتمع، من تقاليده العفنة، ومن أسلوبه الواحد، ومن القالب الذي يعيشون فيه على حلم لا يعملون من أجله.

في تعريف اليسار يعتقد الكثيرون أننا بعيدون عن الدين كنص مقدس، ولكننا في الحقيقة بعيدون عن العقل الديني الذي يلبسك قوالبٍ لستَ أنت من يحددها، الدين عمودٌ أصيل في هذا المجتمع وعليك أن تحترمه وأن تمارسه كما يحلو لك، لا لأحد سلطة على آخر في عباداته، وهذا ما قاله رب العالمين، اليوم كإسلامي التنشئة ويساري المبدأ والفكر، لا زلت أغرق بين ما أريد، وبين ما يريد المجتمع مني، بين العباءة التي ألبسها بإرادتي، وبين إرادة العباءات المفروضة عليّ.

صرتُ أبحث عن مخرج في هذه الحياة، أصرخ في الشوارع من داخلي، أعيش بشخصين، شخص بوجه خارجي يعامل الناس كما يحبون وكما اعتادوا على أن يعاملهم أحد، وشخصٌ آخر في قلبي يريد أن ينفجر، أن يهرب إلى مكان خالٍ من كل هذه الفوضى، وكل هذا الكذب، وكل هذا الشجع، وهنا تكمن تحديداً مشكلة اليساري الذي نشأ في بيئة دينية، ولا أتحدث عن نفسي فقط، بل أتحدث عن كل اليساريين أمثالي، الذين يعيشون في فجوة النظرية، وقهر التطبيق، في نظرة الأمل، ونظرة السخط من المجتمع، في فهمهم لنفسهم، وابتعادهم عن الثقافة السائدة، في التطرف والسلام، ليس هنالك توازن بين ما نؤمن به وبين ما يريد المجتمع منّا أن نؤمن به.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.