شعار قسم مدونات

تأكدوا.. لن ننهض إلا في غفلة من الغرب

blogs- دمار الموصل
في مشروع قِرائي أخوضه منذ مُدة؛ تقاطعت في أكثـر من سبيل وتعثّـرت في أكثـر من موضع بالأعمال النقدية للروائي الأمريكي الكبير (لوثر غور فيدال) الذي بَهرني بحسه الإنساني وبكمال عقله، فقد أقرّ في العديد من كتبه بأن المجتمع الغربي لن ينكمش ويذوي وفق التدرج الخلدوني بل سينهار كما انهارت أبراج منهاتن. كذلك انتهت كل المجتمعات القديمة المتبجّحة من قبل، في روما وأثينا والأندلس.. انتهت ساعة كانت ضخامتها ومظاهر الترف فيها تُلهي الناظر وتخدعه عن السوس الذي يَنخُر أعمدتها.

وقد توقفت عند مقولة لـ(غور فيدال) يصف فيها أولئك المتنطعون من مثقفي العوالم السفلية (العالم الثالث) والمعجبون بالحضارة الغربية بأنهم "خفافيش تدافع عن ضوء مزيّف" وبأنهم لمّا "فشلوا في استيعاب خصوصية شعوبهم" وفق تعبيـر (إدوارد سعيد) انزلقوا نحو سب هذه الشعوب واتهامها بأنها شعوب عنيفة وقذرة ومجّدوا في المقابل حضارة الغرب وقدسوها نموذجا كاملا غير منقوص.

تخاطبهم (فيرجينيا وولف) على لسان أحد أبطال روايتها بقولها "يا أيها الشعراء الناقمون على مجتمعكم كفاكم تهليلا بأمجادنا، أفيقوا فصديد مجتمعكم وقَيْحُه هو نتاج خناجر هذه الأمجاد التي بها تتغنون. فنحن من جرحناكم ونحن من نحرك جرحكم باستمرار حتى لا يلتئم".

شئنا أم أبينا، فَصّلنا أم أوْجَزنا؛ لن ننهض إلا في غفلة من الغرب، العيب لن تتحمله بنيتنا الاجتماعية وحدها بل يتحمله معنا ذلك الآخر الذي يَحرس نومنا بأحجياته ومشهدياته

فِعلا؛ يصيح الرجل (المثقف) في وجهك فيقول لك مجتمعاتنا غوغاء لا تجيد إلا العنف، ومجتمعاتهم واعية بنّاءة حضارة، ويتناسى أن العنف الذي يسكننا هو نتاج الأمس القريب الذي نالت فيها جيوشهم من عُقولنا قبل جُلودنا، ففرنسا مثلا والتي قتلت وجهّلت الملايين في شمال أفريقيا في بدايات القرن العشرين وتركت لهم أنظمة عَمِيلة، تلوم اليوم هذه الشعوب على تصدير العنف إلى باريسها الجميلة؛ وأمريكا التي سحقت عواصمنا وغزت أوطاننا تمنعنا اليوم من ممارسة حقنا الطبيعي في السفر بدعوى أننا نشكل خطرا على أمنها.

‏وقد يقول القائل إن كل هذه الانتقادات لا يمكنها أن تُبدد المسافة الحضارية التي تجاوزنا بها الغرب؛ فنرد عليه بأن هذه المسافة كانت لتكون كذلك لو لم تُقصِّرها أفعال رجالات الغرب ونخبه اليمينية من عداء مركّب ومجنون لشعوب كان من المفترض أن تُقدّم لها الاعتذارات وتكال لها التعويضات؛ عن المآسي التي رميت به قديما وحديثا.

والحال هذه فنحن فعلا مطالبون أكثر من أي وقت مضى بأن نكون على موعد متجدد للقطع مع قراءتنا الحالية للحضارة الغربية، تلك القراءة المقدسة التي فَرضت علينا بُنى جاهزة ونَمطت عقلنا العربي ضمن تصورات معرفية غاية في التصلب والانطواء. علينا إذا أن نسحق هذه البنى الجاهزة تحت مطرقة النقد وأن نعصرها في رحى التمحيص.

لمّا شاء الآخر ألا يكون العراق إلا ممزقا، أطلق العنان لـ 15 سنة من الحصار، تقدم الناس فيها وبعدها إلى الأسواق لبيع أحلامهم قبل مكتباتهم للعيش
لمّا شاء الآخر ألا يكون العراق إلا ممزقا، أطلق العنان لـ 15 سنة من الحصار، تقدم الناس فيها وبعدها إلى الأسواق لبيع أحلامهم قبل مكتباتهم للعيش

حقا يجب أن نحدث مزيدا من الانفجارات في هذه المساحات التي تحكم رؤيتنا لهذا الآخر المقدس، وأن نستثمر هذه الانفجارات الفكرية في قطع الطريق على مُتطرفينا كي لا يحوّلونها إلى تفجيـرات إرهابية في شوارعهم، كي لا نعود إلى الحلقة الأولى التي تتعزز فيها حالة جلد الذات المجلودة أصلا من قبلنا. وأنا هنا عندما شَغَّلت قلمي في هذه المساحة الفكرية كنت أتصيد مجموعة من العقائد الناقمة على شعوبها والتي رأت في الآخر خيرا مطلقا، وفي الأنا شرّا مُطبقا، فحمّلت الضحية وزر آلامها ونزّهت الجلاد ورفعته على جدار الحضارة لوحة فاخرة.

سادتي.. شئنا أم أبينا، فَصّلنا أم أوْجَزنا؛ (لن ننهض إلا في غفلة من الغرب)، العيب لن تتحمله بنيتنا الاجتماعية وحدها بل يتحمله معنا ذلك الآخر الذي يَحرس نومنا بأحجياته ومشهدياته.. أنا لن أطلب من الفرد العربي الذي لا يجد قوت يومه بأن يتحرر من أفكاره الولائية أو البرائية فهو يعالج بها نفسا جائعة خائفة، أنا ألوم ذلك الآخر الذي ما فتئ يُــثـبّت أنظمة بوتفليقية وقـذّافية ومباركية وبشّارية.. يُثبّتها كالقُراد الذي يأكل الفرس من فَرْجها فلا يدعها ترفع رأسها إلى السماء.

سادتي.. ها هو ذا العراق في سبعينيات وثمانينيات هذا القرن كان يملك حضارة تُصْدر عشرات الآلاف من الكتب سنويا، وتتعهد مئات الآلاف ما بين عالم ومفكر. لكن لمّا شاء الآخر ألا يكون العراق إلا ممزقا، أطلق العنان لـ 15 سنة من الحصار، تقدم الناس فيها وبعدها إلى الأسواق لبيع أحلامهم قبل مكتباتهم للعيش، طوابير كانت بالأمس على أبواب المكتبات صارت اليوم على أبواب الأونوروا والمعابر الحدودية.

سادتي.. قبل أن تجلدوا ذواتكم وتجلدونا معها حرّكوا أياديكم على الجلد ستجدون ندوبا وشقوقا سبقكم إليها الآخر الذي تقدسونه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.