شعار قسم مدونات

متلازمة التحذلق اللغوي

مدونات - لغة كتاب قراءة تصفح قاموس

هل تشعر بالانزعاج حين تقرأ نصا يحوي أخطاء نحوية أو إملائية؟ هل تغضب حين يخطئ مذيع الأخبار في التلفاز؟ هل تشعر دائما برغبة ملحة في تصحيح الأخطاء؟ إذاً لا بد من أنك تعاني من "متلازمة التحذلق اللغوي".
 
عندما كنت أبحر ذات يوم في فضاء الإنترنت، وقعت عيني على مقالة مثيرة للاهتمام بعنوان "Grammatical Pedantry Syndrome" وهو عنوان هذه التدوينة. تسمرّت عيني على العنوان ودار في رأسي الكثير من التخمينات قبل أن ينطلق إصبعي إلى الزر بحماس مشوب بالحذر، إذ شعرت بأنها تعنيني. بدأت بالقراءة ووجدت ما أدهشني، إذ تقول المقالة بأن الأشخاص الذين يقومون بتصحيح الأخطاء اللغوية للآخرين بشكل دائم يعانون من نوع من الوسواس القهري "OCD" ينتج عنه نوع من الاضطراب النفسي اصطلح الباحثون على تسميته بـ"متلازمة التحذلق اللغوي". وتضيف الدراسة بأن هؤلاء الأشخاص لديهم جين يسمى بـ"جين قواعد اللغة" وهو ما يسبب هذا الاضطراب، وبأنهم يأملون بأن يجدوا علاجا شافيا لهم في المستقبل.
   

طريقتنا في الكتابة والتكلم هي واجهة ذواتنا وشخصياتنا والانطباع الأولي عما نمتلك من علم وثقافة، فاللغة مرآة الحضارة، كلما زادت الأخيرة تعقدت معها الأولى وتألقت

ما إن انتهيت من قراءة المقال حتى شعرت بشيء غريب، إذ مرّ أمام ناظري شريط الأخطاء التي عدلتها في حياتي، الهمزات والحركات وعلامات الترقيم، "انتا وانتي وامراءة وسوءال" وكل تلك الكلمات رأيتها ترقص في رأسي وتضحك. شعرت برأسي يؤلمني، ولاحظت اصفرار وجهي بالمرآة. يا إلهي! لا بد أنني مصابة بهذه المتلازمة. عدت لأبحث أكثر عن الموضوع، فوجدت عنوانا يقول: اختبار الإصابة بمتلازمة التحذلق اللغوي. دخلت بسرعة إلى الموقع لأخوض الاختبار وأنا أبلع ريقي، فوجدت أسئلة في قواعد اللغة، يتناسب فيها عدد الإجابات الصحيحة طرديا مع احتمال الإصابة بالاضطراب. أجبت عليها كلها وعندما ظهرت النتيجة "علامة كاملة" يا إلهي! لقد تأكد الأمر.

 
لقد كان أمر هذه الدراسة غريبا بالنسبة لي، فالأشخاص الحريصون على استخدام لغة سليمة، والملاحِظون للأخطاء اللغوية بشكل أكبر من غيرهم يتمتعون عادة بحس من الدقة والثقافة اللغوية العالية، وهم حريصون على الدقة في نواحي حياتهم الأخرى ويولون اهتماما كبيرا بالتفاصيل. كما أن الطريقة التي نكتب ونتكلم بها هي واجهة ذواتنا وشخصياتنا وانطباع أولي عما نمتلك من علم وثقافة، فاللغة مرآة الحضارة، كلما زادت الأخيرة تعقدت معها الأولى وتألقت. فالحرص على اللغة السليمة شكل من أشكال الوعي الحضاري، فكيف يكون اضطرابا نفسيا؟ 

 

تمالكت نفسي من جديد، وبدأت البحث بشكل جدي عن هذه الدراسة، تصفحت جميع المواقع التي أوردَتها وهي كثيرة بالإنجليزية والعربية، فوجدتها كلها منسوخة بنفس الصيغة، وكل تلك المواقع هي من نوع المنتديات ومواقع التسلية، ولم أجد مصدرا علميا واحدا يشير إلى ذلك المصطلح طيلة بحثي المطوّل. حتى تبين لي في نهاية الأمر بأنه مصطلح لا أصل له علميا بل اخترعه شخص ما، ويبدو بأنها مزحة ثقيلة من شخص مجرم في قواعد اللغة ومغتاظ ممن يصحّحونها. تنفست الصعداء وعاد وجهي إلى طبيعته، لقد كنت أدري بأن هناك خطأٌ ما! 

 

انحلت العامية إلى الفصحى لكثرة ممارسته واعتياده، فأصبح من الشائع أن ترى ذلك في الجرائد وتسمعه في نشرات الأخبار
انحلت العامية إلى الفصحى لكثرة ممارسته واعتياده، فأصبح من الشائع أن ترى ذلك في الجرائد وتسمعه في نشرات الأخبار

 
لقد كان أمر تلك المتلازمة التي تملأ الإنترنت مفبركا، لكن هناك بعض المصطلحات العامية التي يستخدمها رواد الإنترنت مثل مصطلح "Grammar Nazi" أو الشخص النازي في استخدام القواعد، في إشارة إلى مصحّح الأخطاء، ومعناه واضح بالطبع. بالإضافة إلى مصطلحات أخرى طريفة تعبر عن انزعاج أصحابها من هذا الأمر. رغم عدم شعورنا بهذا الفزع تجاه تصحيح الأخطاء في مجتمعنا العربي، إلا أن اعتبار الحرص على اللغة السليمة خللا وخطأ هو أمر مرفوض تماما، فهو واجب تجاه لغة نحبها ونفخر بها، وهو أوهن مجهودات الحفاظ عليها. خاصة في عصرٍ أصبحت تتفلّت فيه اللغة من أيدينا كقطعة الصابون.
 
لا شك بأنّ الرواسب بدأت تتسلل إلى صفاء ماء العربية في العقود الأخيرة أكثر من أي وقت آخر، وتحديدا مع انهيار السد الذي كان يحصر الكتابة على العربية الفصيحة، فمنذ دخولنا عصر الإنترنت والهواتف الذكية دخلت معنا العامية إلى ميدان الكتابة لأول مرة حيث لم توجد سابقا، فلم يكن من الممكن أن تجد رسالة ورقية قديمة مكتوبة باللهجة الدارجة. لكن طبيعة حياتنا المتسارعة الآن سمحت لنا بذلك. وكان ضريبته ليّ عنق اللغة بما يرتاح له لسان القارئ ويده القابعة على الأزرار، وبالتالي كسر قواعد اللغة والإملاء، فمن قال إن للعامية قواعد؟ ألسنا نطوعها كما نشاء؟ المشكلة ليست هنا بل هي في تسلل انحلال العامية إلى الفصحى لكثرة ممارسته واعتياده، فأصبح من الشائع أن ترى ذلك في الجرائد وتسمعه في نشرات الأخبار.
 
أما السبب الآخر المثير للشجن، فهو تردّي الاهتمام بالعربية في التعليم، حتى أصبحت الأجيال تتخرج دون مقدرة على القراءة والكتابة الصحيحة، وتلك بالطبع أحد عناصر منظومة التعليم العربية المتهالكة. لذلك فالتعليم الجيد من مختلف مشاربه هو أساس اللغة القوية. إن الحرص على اللغة الجميلة ليس خللا أو اضطرابا، بل هو حب وغيرة وحرص، فهل تظنون أنكم تجيدون العربية وقادرون على اكتشاف الأخطاء؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.