شعار قسم مدونات

في العدالة الجزائية.. عاصم عمر ضحية

blogs - الضحية عاصم عمر
"ليس الغرض من العقوبة تعذيب أو إلحاق الأذى بأي مخلوق يمتلك الإحساس، ولا هو إبطال فعل جريمة سبق أن وقعت". كان النص السابق اقتباساً من كتاب سيزار بيكاريا "في الجرائم والعقوبات" الذي تناول فيه العدالة الجزائية من وجهة نظر المنفعة، أي بمعنى التفكير في العدالة الجنائية بما يعود للمجتمع بالخير أولاً. كان بيكاريا يعتقد أنه بالإمكان بلوغ غايات نهائية، كرفاهية وسعادة المجتمع، بإصلاح القوانين والممارسات الجنائية والجزائية. وبمعنى أوضح، يمكن تلخيص جملة مقولاته في العدالة الجنائية، بأنها تسعى إلى تقليل معدل انتهاك حقوق الآخرين عن طريق تطبيق الحد الأدنى من العقوبة الذي يردع الناس عن ارتكاب المخالفات. الغرض الأساسي من أي نظام جزائي وجنائي عند بيكاريا هو استخلاص بعض المحفزات التي تدفع إلى تقليل معدل انتهاك الحقوق إلى أدنى حد ممكن.

حقق كتاب "الجرائم والعقوبات" نقلة نوعية تاريخية في فهم العقوبات والغرض منها

، واشتمل على النص الذي انتشر في معظم الدساتير حول العالم سواء بنفس الصيغة أو بصيغة تؤدي نفس المعنى، وهو النص الذي يؤسس لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات: "لا جريمة ولا عقوبة بدون نص قانوني". ناضل بيكاريا من أجل الحد من سلطات القاضي باعتباره مطبقا للقوانين لا صانعاً لها، وكان ذلك انطلاقا للثورة القانونية التي اختفت بموجبها أشكال التعذيب المختلفة في أوروبا في تلك الفترة.

ما دامت هنالك ملابسات وغموض بخصوص العملية التي أدت إلى إفضاء روح المجني عليه، ناهيك عن عدم التأكد من دوافع القتل أو التأكد من وجود نية مبيتة، فنحن دائما أمام شك منطقي

لا شك أن التصور المنفعي للعدالة الجزائية، للوهلة الأولى، يبدو معقولاً وإنسانياً: لماذا ينبغي أن يعاني الناس أكثر مما ينبغي؟ ولا شك كذلك أن القفزة التي أحدثها في طريقة التفكير في العدالة – حيث تطور الفكر العقابي من الطريقة التقليدية بالتفكير في الانتقام والردع فحسب – تُمثِّل تطوراً للوعي الإنساني بروح القوانين. لكن بالرغم من كل ذلك، ومن المشكلات التي حظيت باهتمام واسع، أن التصور المنفعي يعطي تبريراً، في بعض الحالات، لمعاقبة أشخاص ربما هم في الواقع أبرياء، هذه المشكلة هي بالتحديد الخيط الناظم لصياغة هذا المقال والدافع وراء التفكير في قضية عاصم عمر.

لنفترض أن هناك جريمة شنيعة اقترفت، ولم يتم العثور على الجاني أو لم تتم معرفته. في هذه الحالة تتصرف السلطات التي تنظر لاعتبارات منفعة المجتمع أولاً بطريقة تهدف إلى تخميد هالة الهلع التي تنتاب المجتمع والتي من الممكن أن تؤدي إلى تعطيل عمليات التنمية والازدهار. ربما تكون أكبر منفعة يمكن تقديمها في هذه الحالة هي الإمساك بأوهن خيوط القضية ومن ثم صنع جاني من خلالها. غالباً ما يدّعي نقاد مذهب المنفعة أن الاتجاه المنفعي في تطبيق العدالة الجنائية يدعو إلى اتباع مثل هذا السيناريو. وأشاروا إلى أنها نقطة ضعف خطيرة في الاتجاه المنفعي للعدالة. وبالتأكيد يمكن تأييد هذا السيناريو بقوة أيضا إذا ما كانت الحادثة وقعت أثناء مظاهرات ضد السلطة الحاكمة نفسها.

من المعروف في نظام القضاء، أنه لا يستطيع قاضٍ أن يعلن رجلا مذنباً بدون أن يكون متأكداً تماماً. هذا الأمر، أي هذا التأكد، ينبغي أن يبلغ أقصى درجاته عندما يتعلق الأمر بعقوبة الإعدام. من هذا المنطلق تبرز الحجة المعقولة، والتي تدعم المناهضين لعقوبة الإعدام، بأننا لا نستطيع توفير ضمانات المحاكمة العادلة – بشكل تام – في القضايا التي يتم الحكم فيها بالإعدام.

قامت الدول الحديثة، بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، بإيجاد نظام هيئة المحلفين من أجل إشراك المواطنين في عملية تطبيق العدالة الجنائية
قامت الدول الحديثة، بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، بإيجاد نظام هيئة المحلفين من أجل إشراك المواطنين في عملية تطبيق العدالة الجنائية

ما دمنا نستطيع دائما توفير شك منطقي – وهذا شيء ذو قيمة كبيرة في تحديد التصرفات التي لا ينفصل منها القصد المسبق، مثل الجريمة المبيتة – بخصوص ضلوع المتهم في الفعل فنحن دائما على درجة مقبولة منطقياً من نقض حكم الإعدام. وما دامت هنالك ملابسات وغموض بخصوص العملية التي أدت إلى إفضاء روح المجني عليه، ناهيك عن عدم التأكد من دوافع القتل أو التأكد من وجود نية مبيتة، فنحن دائما أمام شك منطقي.

هل عمَل الشرطة لاحتواء المظاهرات العامة، والذي يعد خطراً بطبيعته، تتحمل مسؤوليته الدولة أم الأفراد؟ من الواضح أن الدولة، بجهازها التنفيذي، هي من يجب أن يكون في مواجهة مباشرة مع أولياء الدم

القطعية الصارمة بخصوص إثبات وجود دوافع القتل والنية المسبقة تجد لنفسها المكانة الأهم في قضايا القتل من واقع أن عقوبة الإعدام، في الدول التي لا تزال تعمل بها، بلا شك هي أقصى ما يمكن أن يوقعه المجتمع على أفراده، أي الحد الأعلى لما يمكن أن يفعله المجتمع بالمذنب، وليست عين عقوبة القتل. وهي عقوبة تطور التفكير فيها ليتعلق نقضها وتأييدها بأهلية أو عدم أهلية الجاني للعيش وسط نفس المجتمع الذي سيصدر عليه الحكم، متجاوزاً دوافع الانتقام والمعاملة بالمثل أو الردع فقط والتي كانت تشكل أُطر التنظير للعدالة الجنائية.

لذلك قامت الدول الحديثة، بالمعنى السوسيولوجي للكلمة (الولايات المتحدة ودول التاج البريطاني على وجه التحديد)، بإيجاد نظام هيئة المحلفين من أجل إشراك المواطنين في عملية تطبيق العدالة الجنائية، وهي مجموعة من المواطنين – ليسوا بالضرورة مختصين – يتم اختيارهم بطريقة معينة لينظروا فيما إذا كانت هناك أدلة كافية لإصدار اتهام ضد إنسان بجرم معين، وليقرروا براءة أو إدانة المتهم. وليُقبل رأي الهيئة في إدانة أي متهم ينبغي أن يكون ذلك بالإجماع؛ وصوت واحد يشكك في إدانة المتهم يضمن أن حكم الإدانة ما يزال غير يقيني.

ولا يزال أمران يجعلان الحكم الصادر محل تفكير واستغراب، ورفض في الواقع، ويبرز تساؤلان بخصوصهما، الأمر الأول هو أن المحكمة عللت حكم القتل العمد بأن الفعل الذي ارتكب وإن لم يكن يقصد به قتل القتيل بعينه فإن المتهم يعلم ما قد يأتي جراء ذلك الفعل، ووصفت المحكمة الفعل الذي قام به المتهم كمن يقوم بتفجير مكان عام وبالتالي توفّرَ القصد الجنائي. إن الادعاء بأن المتهم يعلم ويتوقع نتيجة فعله – افتراضاً أنه فعلها – ويرمي من خلال فعله إلى النتيجة نفسها (أي القتل) يحتاج إلى يقين كامل نستطيع أن نؤكد من خلاله وجود النية المسبقة والعمد. هل توفر اليقين الكامل بأن المتهم يدرك أن نتيجة فعله القتل كما يتوفر في حالات مرتكبي التفجير في مكان عام؟ بالطبع لم يتوفر، ومن هنا نتحصل على شك منطقي بخصوص "النية المسبق".

الأمر الثاني، وهو يعتمد على الادعاء السابق بتوفر القصد الجنائي – هو أن حكم الإعدام أصدر بناءً على مطالبة أولياء دم الشرطي بالقصاص، في هذه الحالة هناك تساؤل يجدُ مكاناً بين شكوك متزايدة: هل عمَل الشرطة لاحتواء المظاهرات العامة، والذي يعد خطراً بطبيعته، تتحمل مسؤوليته الدولة أم الأفراد؟ من الواضح أن الدولة، بجهازها التنفيذي، هي من يجب أن يكون في مواجهة مباشرة مع أولياء الدم بدل أن تجعل القضية قضية أهلية بين أسرتين.

من الحكمة بلا شك تدخل قيادات الدولة مباشرة، بدل الابتعاد عن القضية، من أجل توفيق الأوضاع تقديراً للخدمة العامة التي بذلها الشرطي وتقديراً لوالديه. وكذلك رفقاً بأهل المتهم وذويه ومنعاً لتطور المجريات وتراكم المزيد من الخصومات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.