شعار قسم مدونات

الاغتراب النفسي وسيكولوجية العنف

Blogs- angry

مما لا شك فيه أن ظاهرة العنف، هي إحدى الظواهر العالمية المقلقة والملفتة لانتباه وتحليل العلماء من شتى الاختصاصات، وهي التي فرضت نفسها وبجدليه خلال العقد المنصرم، من هذا القرن بطريقة لربما تكون مغايره بعض الشيء، المدرج تحت مسمى العنف التقليدي.

        

ولأن أبعاد هذه الظاهرة متعددة ومتشابكة، ولأن الظواهر الواقعية تشمل وبطريقة مباشرة وغير قابلة للتجزئة المكون النفسي، فان التحليل النفسي العميق لجميع مفردات هذا المصطلح أمر من العملية والأهمية بمكان يستحق أن يوضع تحت الأضواء التحليلية. إن المؤشرات المتعددة الإحصائية والتحليلية للمستقبل القريب تبرهن على أن العنف الطبيعي والعنف البشري ماضٍ بالازدياد، فالنفس البشرية عامه أصبحت لا ترحم الطبيعة ولا ترحم النفس الأخرى، فالظواهر الطبيعية من التصحر والتلوث امتدت لتطال البشر، فهم يعانون من التصحر الأخلاقي والتلوث الفكري. وهنا، سأتطرق لمفهوم الاغتراب النفسي والصراعات الإنسانية الذاتية، كسبب واضح للظاهرة النفسية المتمثلة بالعنف.

         

إن الناظر الآن إلى الفجوة العميقة بين الأصل والموروث ومنظومة القيم من جهة، وبين العولمة والثورة المعلوماتية والاستقطابات النفسية والسياسية من جهة أخرى، ليدرك وبشكل واضح حالة الاغتراب النفسي القهري، والصراعات الذاتية الداخلية النفسية التي يعاني منها البشر، والتي يجب أن تفرغ، وهنا تكمن إحدى المشاكل العظيمة، ففي معظم الحالات يكون هذا التفريغ هو عنف اتجاه الذات أو اتجاه الأخر البشري أو اتجاه الأم الطبيعة. أما العنف الموجه اتجاه الذات فيؤدي للأسف إلى تزايد واضح في حالات الانتحار أو ايذاء النفس، عن طريق الإدمان وخرق القيم الاجتماعية، والعنف الموجه اتجاه الأخر القريب أو البعيد يعتبر من أهم البيئات الفكرية الخصبة للإرهاب الفكري أو الإرهاب الفعلي.

           

تراكم المشكلات، وخصوصاً في الأساسيات الحياتية الاقتصادية دون وجود حلول علمية وعملية لها هو أحد المشاكل الجوهرية، المؤدية إلى الاغتراب عن الذات أو عن المجتمع
تراكم المشكلات، وخصوصاً في الأساسيات الحياتية الاقتصادية دون وجود حلول علمية وعملية لها هو أحد المشاكل الجوهرية، المؤدية إلى الاغتراب عن الذات أو عن المجتمع
          

أما فيما يخص العنف الموجه اتجاه الأم الطبيعة، فمظاهره لا تخفى على أحد، إن مكونات الشخصية الإنسانية المترابطة، تدفع كل مكون بطريقه شعورية وتحت شعورية إلى محاولة فرض حالة من التوازن والانسجام الذاتي، وبالتالي حالة السلام مع الذات، وتسعى كذلك لفرض حالة من التوازن والانسجام مع البيئة الخارجية، وبالتالي لحالة سلام مع المجتمع، بعيداً عن كافة أشكال التطرف الفكري أو التطرف الوجداني أو التطرف المسلكي، وهذا يعني وكما هو واضح فان السلوك الإنساني يحدد وفقاً للتفاعل والتطور والتأقلم المتواصل بين الانسان وبين البيئة الخارجية.

        

تعد الأنا من الناحية الوظيفية، المسؤولة عن تكوين أطر مسلكية أساسية تتفاعل بكفاءة مع المواقف الاجتماعية، وهذه الأطر تتراكم مع مرور الوقت مشكلة ما يسمى بالسلوك الإنساني، الذي يخضع للسيطرة المباشرة للإدراك الواعي. والذي يتميز بحالة من التوازن بين القيم المعلنة والقيم السائدة. ولا يخرق إلا في حال تعرض الإنسان لأي نوع من التهديد فيصبح اللاشعور عادةً هو المتحكم بالأنماط المسلكية، فالتهديد المذكور أعلاه، يمكن أن يكون تهديد لأي مستوى من مستويات هرم "ماسلو" للاحتياجات كتهديد الأساسيات من مأكل أو مشرب أو تهديد الأمن الذاتي للفرد أو تهديد الشعور بالانتماء أو الشعور بالذات والوجودية، وهذه مجتمعة تدخل الإنسان بحالة من الاغتراب النفسي.

           

فتراكم المشكلات، وخصوصاً في الأساسيات الحياتية الاقتصادية، يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام دون وجود حلول علمية وعملية (حقيقية) لها، والاكتفاء بالحلول الشكلية أو الإعلامية أو الوهمية أو الفهلوية دون الدخول إلى جوهر المشكلات، هو أحد المشاكل الجوهرية، المؤدية إلى الاغتراب عن الذات أو عن المجتمع. فتراكم المشكلات دون حل حقيقي يؤدى إلى حالة من التأزم، وتراكم الأزمات دون حل حقيقي يؤدى إلى شعور متزايد بالإحباط، والذي يؤدي بدوره إلى تراكم شحنات الغضب والتي تظل كامنة إلى أن تصل إلى مستوى معين فيحدث الانفجار في ظروف مهيأة وضاغطة، على صورة أعمال عنف ظاهرة، أو تتحول تلك الشحنات إلى غضب مزمن ومكتوم يؤدى إلى حالة من العدوان السلبي يظهر على شكل لامبالاة، كسل، تراخى، بلادة، عدم انتماء، عدم إتقان.

                     

ازدياد العنف على ضوء المؤشرات الحالية، ينذر بأن البشرية جمعاء متجهة وبشكل متسارع، وللأسف نحو عصر الغابة، منكسةً بذلك أعلام التقدم العلمي والاجتماعي
ازدياد العنف على ضوء المؤشرات الحالية، ينذر بأن البشرية جمعاء متجهة وبشكل متسارع، وللأسف نحو عصر الغابة، منكسةً بذلك أعلام التقدم العلمي والاجتماعي
            

وسواء أكان التعبير عن الاغتراب النفسي، بالعنف الظاهر أو العنف المبطن فإنه وببساطة حالة من اللاقوة واللاهدفية، والانسحاب أو الانفصال عن الحياة الاجتماعية والثقافية، وإتباع مجموعه من الأطر الفكرية الهجينة والتي تؤدي في النهاية إلى حالة من العجز والقصور عن التعايش مع الأخر، بالتالي عدم الامتثال عن مسايرة الضوابط الاجتماعية السائدة في مجتمع معين، أو المقبولة إنسانياً، ومن هنا يميل السلوك البشري إلى العنف والعدوانية بالأفكار والسلوك مع الأخر.

          

ولأن الاغتراب النفسي يؤدي لحالة من التمرد على الواقع والرغبة الجامحة بهدم وإيذاء الآخر، فإن أي تحليل لظاهرة العنف وخاصة التحليلات السطحية والتي تخدم هدف واحد في معظم الأحيان، وهو الربط المباشر المتسرع الغير منطقي بالأديان، هو تحليل غير عملي من حيث أن السؤال الجوهري، والمفروض أن يسأل عندما نحلل ظاهرة العنف، هو ماهية الأسباب التي تؤدي اغتراب الإنسان مع ذاته بعيداً عن القيم الإنسانية؟

          

إن ازدياد العنف على ضوء المؤشرات الحالية، ينذر بأن البشرية جمعاء متجهة وبشكل متسارع، وللأسف نحو عصر الغابة، منكسةً بذلك أعلام التقدم العلمي والاجتماعي، رافعةً أعلام الذل والفاقة، ما نحتاجه هنا وقفة عالمية جادة ومسؤولة، هدفها النظر للأخر البشري وغير البشري بنوع من العقلانية، فالكوكب يجب أن يتسع للجميع، وما يحث في أقطاب كوكب الأرض الأربعة يؤثر وبشكل مباشر على من هم ضمن هذه الحدود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.