شعار قسم مدونات

من هارون الرشيد إلى الشيطان منعك، أين نهضتنا؟

blogs- الفيسبوك

أنا مدمن على ذلك الأزرق المارد، حاولت أن أعالجني من إدمانه فلم أستطع، فقلت لم لا أجعله علاجا في ذاته بدل أن أعتبره مرضا؟ ومذ ذاك وأنا مدمن على هذا العلاج!، أحاول جاهدا أن أمضي ما قدر من وقتي به في مطالعة شيء مفيد. أدخله باكرا كعادتي كل يوم، سواء كان يوم عمل أو يوما حرا من أي التزام رسمي، أقلبه بطريقة يتعجب منها كل من لم يذق هوس المواقع الاجتماعية، فتجدني أنتقل ما بين خبر مفرح وآخر حزين في رمشة عين، وتتغير على إثرها ملامح وجهي مرات عديدة في الدقيقة!
 

مشكلتي في فيسبوك أني بالكاد أجد ما ينفع، فجله أخبار فن ونميمة لا تعنيني، وبعض بعضه النافع بالكاد أحصل عليه، وبين هذا وذاك علي أن أمر على تلك المنشورات اللعينة التي ترفع ضغط دمي، إنها منشورات دين تأتي في شكل مسيلماتي -مسيلمة الكذاب- غبي، لنستعرض بعضها فمن الكرم اقتسام كظم الغيض مع الإخوة والأصدقاء!
 

أمحص في أسباب جهل أمة اقرأ فلا أجدني حصلت على غير اثنين: إما جهل مسوق له من سفيه جهل ويجهل أنه يجهل، أو تسويق عن طريق جهلة يبيعون الدين بعرض من الدنيا قليل.

"سبحان الله ملحد يفقد بصره ورجله وجزء من أمعائه"، هذه العبارة التي لها أخوات شبه عدة عادة ما تستفزني فأتساءل أهو أعتى أم فرعون؟ منشور آخر، صورة لأفعى في شكل نملة بهيئة بطة! مكتوب معها بالحرف الظاهر جدا "إذا أعجبتك الصورة قل سبحان الله"، والعجب أن لمسة الفوتوشوب ظاهرة للعيان، أقول: سبحان الله.. ناشر في هيئة إنسان!
 

المنشور الثالث داعشي المبدأ فهو يدعو إلى الرحمة بغير الرحمة، ينشر صورة شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو طفل مريض، ثم يردفها بدعاشته: "قطع الله يد ورجل كل من لم يقل ربي يشفيه"، أمر دون أن أقول، وشفى الله كل مبتلى.
 

المنشور الرابع اختصار لمفهوم بيع الدين بالدنيا، استراتيجيته التسويقية لمنتجه أو صفحته جعلته يقف على خطة شيطانية -مع احتراماتي للشيطان هنا-، يقول في الظاهر: اليوم سنجمع مليون صلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويقول في الباطن لنجمع معجبين وتفاعلات أكثر.

الخامس ارتقى إلى الربوبية الفرعونية جهرا، يقول لك -بالفم المليان- هذا خبري انشر وستصلك أخبار سعيدة بعد ساعة، وإن لم تفعل فالويل لك بعد ساعه، تمر الساعة ولم يقدر لي إلا ربي ما كتب من سلامة.
 

في بعض الأحيان تأتي تلك المناشير اللعينة في هيئة "معلومة علمية"، من قبيل: "اكتشاف رهيب.. السجود صحي للأعضاء التناسلية، إذا لم تقل الله أكبر اعلم أن الشيطان قد منعك"، أقول الله أكبر ولِمَ تسجد الملائكة ولم تكن ذكرا ولا أنثى إذا؟، نظرة مادية مقيتة.
 

تكثر أوجه رفع الضغط هنا ولا يكفي النص لحصرها، "أقسم بالله أني سأضع إعجاب واكتب الله يرحمها أنت حلفت فلا تحنث"، "لنجمع مليار حسنة"، وغيرها. وأنا أمر على هذه الألغام التي تكاد تفجر حنقي، أتساءل، ما سبب كل هذا الجهل في أمة اقرأ؟ هل يمكن أن نرتقي يوما لمستوى نهضة فكرية مجتمعية؟ أمحص في الأسباب فلا أجدني حصلت على غير اثنين: إما جهل مسوق له من سفيه جهل ويجهل أنه يجهل، أو تسويق عن طريق جهلة يبيعون الدين بعرض من الدنيا قليل. لكن هل يمكن أن نبني نهضة بعد كل هذا؟ يجيبني شيء في داخلي، سأحكي لك قصة، ويبدأ في القص.
 

يقول: يروى أنه في القرن الثاني للهجرة، جاء على رأس الخلافة خليفة عباسي اسمه "هارون بن أبي جعفر المنصور" لقب بهارون الرشيد، يقال أن مجالات العلوم في عصره شهدت تشجيعا منقطع النظير، ويروى أنه مرة أرسل هدية إلى شارلمان، ملك الفرنجة وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة حينها، الهدية كانت عبارة عن ساعة مائية، الساعة مصنوعة من نحاس بارتفاع يناهز الأربعة أمتار، تتحرك من قوة مائية، على رأس كل ساعة من الزمن تتحرك كرات معدنية على قاعدة نحاسية فيها محدثة صوتا موسيقيا جميلا يجتاح أرجاء القصر..
 

نعم كل شيء ممكن، ويمكن لهذا المجتمع العربي أن يتجاوز جهله فالتفكير بدأ ولو على استحياء، وغدا ستأتي نهضة.

الساعة بها اثنا عشر بابا على رأس كل ساعة من الزمن أيضا يخرج فارس من باب يدور حول الساعة عائدا إلى المكان الذي خرج منه، وفي تماما الثانية عشرة من كل يوم يخرج كل الفرسان "اثنا عشر" يدورون بها عائدين كل إلى بابه، ثم تغلق الأبواب. وصلت الساعة إلى شارلمان وبمجرد ما بدأت عملها أثارت ريبته وريبة مستشاريه وقياداته، قد تكون الساعة مسكونة من شيطان مارد هو من يتولى تشغيلها بتلك الطريقة العجيبة في نظرهم !، كيف يتحققون يا ترى؟
 

يجتمع الملك بمستشاريه ثم يقرر أن يأتي الساعة عند خروج الفرسان الاثنا عشر لينقضوا عليهم بفؤوسهم، وكذلك فعلوا، فأصبحت الحادثة نكتة يتداولها الشرق والغرب في جهل الجاهلين. يقول هذا الذي بداخلي بعدما أتم قصته، أرأيت؟ أرأيت الجهل في منتهاه؟ لكن انظر اليوم إلى ما وصلوا، كل شيء ممكن يا هذا. أرد: كيف فعلوا؟
 

يقول: لم يخرجوا من جهلهم إلا بعد قرون من إقطاعية دمرت الإنسانية فيهم حد اليأس، ثم نمت بينهم أفكار فكرة فكرة، لينتج عنها عصر تنوير غير مجرى الحياة عندهم، جاء بمفهوم الدولة ثم بالثورة الصناعية بعدها ثم بثورة تكنولوجية تراها أمامك اليوم حدثا يستحيل مضاهاته.

أقول بعد هذا: نعم كل شيء ممكن، ويمكن لهذا المجتمع العربي أن يتجاوز جهله فالتفكير بدأ ولو على استحياء، وغدا ستأتي نهضة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.