شعار قسم مدونات

رواية النسيان "حيث أريد ولا أريد"

blogs- النسيان

أخذني الكاتب الكولومبي اكتور آباد فاسيولنسيه في روايته El olvido que Seremos حيث أريد ولا أريد. رافقتني كلماته في الطرقات، محطات القطارات، قبل النوم، برفقة كوب قهوة الصباح، حتى في الاستراحة بين المحاضرات! أخذَ خيالي المصرّ على البراءة تارة، وقلبي المكلوم تارة، وعقلي المصدوم تاراتٍ أخرى!

أسنُذكر بعد أن نموت؟ أم سَنُطوى كما الكثير في صفحات الذاكرة وينسَون من نكون؟ هل فعلاً "سَنحيا لبضع سنوات هشَّة بعد الموت في ذاكرة الآخرين، ولكن تلك الذاكرة الشخصية تدنو من الزَّوال أبداً مع كل لحظة تنقضي"؟ أم ثمّةَ حل أخف ألماً؟ الكتب هي مُحاكاة للذّكرى، طرف صناعي وظيفته التذّكر، محاولة يائسة لنجعل ما هو فانٍ، لا محالة، أطول عمراً بقليل.
 

السعادة مصنوعة من مادة خفيفة إلى الحد الذي تذوب معه في الذّكرى بسهولة وتعود، إذا عادت الذاكرة، مشوبة بشعورٍ لاذع الحلاوة، نفرتُ منه دائماً لأنه عديم النّفع، ويضر بالعيش في الحاضر، ألا وهو الحنين!".

أحداث هذه الرواية الرهيبة. حقيقةً! لامسَت جرحاً عميقاً داخلي، عمره ست سنوات ولم يزل يكبر هذه الطفل اليتيم وينزف كل يوم! معاناة عائلة الكاتب ووالده تحديداً في كولومبيا في تلك الحقبة على رغم بشاعته يعتبر لطيف نوعاً ما أمام ما نعانيه نحن السورين منذ قرابة الست سنوات! قراءتها في الوقت الذي تمارس فيه كل أشكال الظلم، الاستبداد والقهر على شعب كامل ويقتل العشرات منه يومياً بشتى آليات القتل، من أكثرها بدائية وأقلها تكلفة: الجوع، إلى الكيماوي، أكثرها تطوراً وحُرمة وأمام مرأى ومسمع من العالم أجمع. هذا ما يجعل مأساتنا أكثر بشاعةً وعُهراً! وأشدُ حرقةً وألما!

"لست أعرف في أيِّة لحظة تجاوز التّعطّش إلى العدالة ذلك الحدّ الخطير الذي يتحوّل عنده إلى رغبة في الاستشهاد، فهناك إحساس أخلاقي عظيم السّمو يحيق به خطر الفيضان والسقوط في الهوس المحموم بالنّضال دائماً" هنا رأيت "قٌتيبة" خطيبي الشهيد بإذن الله. بسجارته وروحه التي بقيت صامدة وعنيدة على النّضال في سبيل الله حتى أخر رمق.
 

تذكرت أحاديثنا، كيف كان يذكّرني دائماً بقراره: لتعلمي أنني لن أتركَ هذه الأرض مهما حييّت. هما مصيرين لا ثالث لهما إما الشّهادة وإما النّصر. "نعرِف أنَّنا سنموت، لسببٍ بسيط هو حقيقة أنّنا على قيد الحياة! نعرف ماذا سيحدث "سنموت" بيد أننا لا نعرف متى ولا كيف، ولا أين! هم رجال صدَقوا ما عاهدوا الله عليه، ماذا عنّا نحن؟ ومن بين كل الميتات الممكنة ثمَّة واحدة نقبلها بقدرٍ كاف من التسليم، الموت الناجم عن الشيخوخة، في السرير، بعد حياة نعيشها طولاً وعرضاً، حياة متّقدة ونافعة. رغم الفجيعة، هل هناك أيّةُ شرِف أعظم من أن تموت حاملاً فكرة إنسانية ورسالة حق على عاتقك؟
 

ثم توغّل ايكتور داخل جرحي بقوة، يوم كنت على موعد معه، فاجأني خبر استشهاده بلا موعد! كيف اغْتُيلَت سعادتنا في ومضة عين! حتى الرصاصة لم تعطينا الحق كي نقول اعترافاتنا الأخيرة ونتلوا تراتيل الوداع. "كلما زادت سعادتنا كلما قلّ إدراكنا لها، وربما لهذا ترسل إلينا الأعالي جرعة لا بأس بها من الألم، كي نتعلّم الشُّكر والعرفان" هكذا يا عزيزتي علينا أن نرضى بالواقع ونكون ممتنين للسعادة التي زارتنا يوماً وحرمتنا دهراً! "كانت سنوات سعيدة بحق، إلّا أن السعادة مصنوعة من مادة خفيفة إلى الحد الذي تذوب معه في الذّكرى بسهولة وتعود، إذا عادت الذاكرة، مشوبة بشعورٍ لاذع الحلاوة، نفرتُ منه دائماً لأنه عديم النّفع، ويضر بالعيش في الحاضر، ألا وهو الحنين!".
 

عاد لذاكرتي إخوة صديقاتي، ألاء وهيا، وابن صديقتي سماح. الأطباء المختطفين قسراً.. نسيتهم أنا. لكن هل نسيهم أهلهم؟ زوج قريبتي، أخو الأخرى، والكثير من الشباب الذين اختفى أثرهم في عشيةٍ وضحاها "في ذلك المكان الملبّد بالغيوم، حيث يذهب ضحايا الاختفاء القسري، بلا خبر، بلا كلمة، وبدون حتى ما تأتينا به الجثّة الهامدة من يقين وتسليم بالموت".
 

الأصوات حولي تعلو. احتدّ النقاش حول رفع السّلاح، بعدما أعلنت أول كتيبة في الجيش الحُر تشكّلها "سألتٌه إن كان الكفاح المُسَلَح ضرورياً لمحاربة الظلم؟ فقال لي إنه كان ضرورياً لمحاربة هتلر". تضاربت عبارات التنديد والتأييد لبعض العمليات العسكرية العشوائية التي لا نعلم من ورائها. كان والد ايكتور يرى "أن الأعمال الوحشية التي ترتكبها الحكومة على نحو أوضح من تلك التي يرتكبها أعداء الحكومة، كالجماعات المسلّحة مثلا". كان يشرح الأمر على نحوٍ متسق إلى حد ما، "إن اغتصاب طفل على يد كاهن أشدّ خطورة من اغتصابه على يد منحرف".
 

ويمرّ أمامي شريطاً أسوداً إلا من خُمرةِ الوجع. أجساداً صغيرة، نحيلة ماتت جوعاً على أرض الشام في القرن العشرون! أبداناً تجمّد الدم في عروقها في مخيمات العَرى والعُري الدولي، فسلّمت! الغرقى، وما أدراكَ ما الغرقى! أولئك الذين لم يكن لديهم نفَسٌ للصراخ قبل أن يلفظهم البحر على شواطئ اللاإنسانية. راحماً بهم، ناهياً لمعاناتهم! ماذا عن أكثرهم صمتاً وأناقة؟ الذين استعجلتهم أحلامهم للنوم ففاضت أرواحهم بسلام، بعدما سلّموها لسُمّ الكيماوي! وعن الأشلاء المبعثرة والرؤوس المفصولة والأطراف الممزّقة، حدّث ولا حرج!
 

فتحت صفحة بيضاء. كتبت "تعلّمت من أبي شيئاً لا يستطيعه القتَلَة، أن أضَع الحقيقة في كلمات حتى تعيش عمراً أطول من أكاذيبهم".

كنت أتساءل دوماً كيف يستطع حكّام هذا العالم، العرب والمسلمون خاصّة أن يغطوا في نومٍ عميق دون أن تغشاهم رائحة موت أهل الشّام! فقال لي ايكتور "غالباً ما تكون للرّحمة سمة من سمات الخيال، فهي القدرة التي تتيح للمرء أن يضع نفسُهُ مكان الآخرين، أن يتخيّل ما قد يشعر به في حال عانى من موقف مماثل، دائماً ما اعتقدت أن قُساة القلوب يفتقرون إلى الخيال الأدبي، تلكَ القدرة التي تمكننا من وضع أنفسنا مكان الآخرين، والتي نكتسبها من خلال الروايات العظيمة، ودائماً ما اعتقدت أن قساة القلوب ليسوا قادرين على إدراك حقيقة أن عجلة الحياة دوّارة، وأننا قد نقف مكان الآخرين في وقت ما، نذوق الألم، الفقر، القمع، الظّلم أو التعذيب".
 

و كما يبدو جلياً في هذه السنين العِجاف أن "ثمَّة أوقات في الحياة يتركَّز فيها الحُزن، وكما يقال إننا نستخرج من الوردة خلاصتها لنصنع العطر، فهكذا يتقطَّر الشّقاء في حياتنا أحياناً حتى يصبِح عاصفاً لا يُطاق". وأنَّ كل المصاعب والمصائب أمام الموت عديمة الوجع والمرارة. لأنه "في أعقاب المصائب الجِسام، يمر حجم المشاكل بعملية تصغير وتقليص، فالموت ليسَ خطيراً في عينيّ من يحمل بداخله حزناً بلا حدود".
 

أغلقت أخر صفحاته. فتحت صفحة بيضاء. كتبت "تعلّمت من أبي شيئاً لا يستطيعه القتَلَة، أن أضَع الحقيقة في كلمات حتى تعيش عمراً أطول من أكاذيبهم". أترانا سنٌنسَى يوماً من نكون؟ ما النّسيان في خياراتنا أبداً. "مالم تتحقَّق العدالةّ، لا سبيل لتحقيق السّلام" النبانتشو بيّا.
أو بالأحرى؛ "مالم تُحقَّق العدالة فلا سبيل لتحقيق السّلام، ولا ينبغي لهُ أن يتحقق".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.