شعار قسم مدونات

تَوسُّطكَ.. سِرُّ استثْنائيَّتك

blogs - human

قرأتُ مرةً قصةَ ذلك الرَّجُل المشهور عالميًّا، المخترع، الوسيم، رَجِل الأعمال، الموهوب، الّذي امتلكَ يومًا أسطولاً للسيارات الرياضية الأولى في العالم، والذي لم يكتفي بكونهِ ملياردير الأبوين بل أصرّ على أن يَسلُك منحًى آخرَ خاصًّا به، فاتَّجه إلى عالم التكنولوجيا ليُنقِذ هذا العالم باختراعاته، بالإضافة إلى قضائه وقت فراغه في مساعدةِ كل ضعيف أو مظلوم! لربما عرفتَ عمّن أتحدث ولو لم تقابله؟ نعم إنه: بروس واين أو كما نعرفه نحن «باتمان» ولم تقابله بالتأكيد لأنه نسجُ خيال!

هذه الشخصياتُ الخيالية وغيرها كثير مثل سوبرمان وسبايدرمان وسَندريلّا وكابتن أميركا وباباي، جسّدناها نحنُ مع اختلافِ ثقافاتِنا، لتكون الشخصيةَ الكاملة المثالية في كل شيء يحاول الإنسان العادي أن يصلَ إليه. وعلى الرغم من أنّنا لن نصل لشيء مما هي عليه تلك الشخصياتِ "الاستثنائية"، إلاّ أننا دومًا ما نسعى إلى الكمالِ؛ محقّقين المثالية في جميع جوانِب حياتنا: الشَّخصية والعاطفية والاجتماعية والمِهَنيّة.. ولا نكتفي بالكمالِ في واحدة بل نريدُها كلها! وتناسيْنا أننا قد وُلدنا بمواهبَ وإمكاناتٍ كامنة متميّزة ومتفرّدة لكلٍّ منا، فبينما وُلِدَ بعضُنا بقدراتٍ أكاديميّة متميِّزة وُلد الآخرون بتميزٍّ رياضيٍّ بدني، أو فني.. أما ما نستطيعُ الوصولَ إليه فما هو إلا نتاج مقدار ما نبذلُ مِن جهد.

لتكون متميزًا في شيء ما تحتاج إلى وقتٍ وطاقة تُكرِّسها فيه، مما يجعلك غيرُ قادر على أن تتميز في كل شيء، ويكاد يكون شبه مستحيل أن تتميز في جميع جوانب حياتك.

من أشهر الكتب التي حقّقت مبيعات كبيرة في أمريكا وبريطانيا كتاب يتحدث عن (منحنى الجرس) لِكلّ من عالِمي النفس تشارلز مواري وريتشارد هيرمستين: هذا المنحنى البياني يُمثّل توزيع أفراد المجتمع على شكل خطٍّ يشبه الجرس -كما في الرسم البياني- . تشكل الغالبية العظمى فيه (حوالي 60 بالمئة) مستوى الأداء المتوسط و20 بالمئة لكل من أصحاب الأداء العالي والأداء المنخفض. هذه النِّسب تُطبَّق على مئات الجوانب الموجودة في المجتمع مثل الطول، الوزن، لون البشرة، المستوى الاجتماعي… وغيرها، فعلى سبيل المثال: في المستوى الاجتماعي 20 بالمئة فقط من المجتمع تمثل طبقة النخبة و20 بالمئة فقط تمثل الطبقة الفقيرة أما الغالبية العظمى فهي ضمن الطبقة المتوسطة… وهكذا دواليك.

كلُّ واحدٍ منَّا لديهِ نقاطُ قوةٍ ونقاطُ ضعف، إلّا أننا نقع ضمن المستوى المتوسط في معظم جوانب حياتنا ولو كنا استثنائيين في أمرٍ أو مهارةٍ ما، وما هذه إلا الفِطرةُ التي فُطرنا عليها: لتكون متميزًا في شيء ما تحتاج إلى وقتٍ وطاقة تُكرِّسها فيه، مما يجعلك غيرُ قادر على أن تتميز في كل شيء، ويكاد يكون شبه مستحيل أن تتميز في جميع جوانب حياتك.

واليوم، ومع قدرتنا على الوصول من خلال الإعلام باختلاف أنواعه إلى كم معلوماتٍ هائل، إلّا أنّ اهتمامَنا محدود، ونُفضِّل عدم النظر إلى المنحنى كاملًا باختلافِ مستوياته. لا يجذبُنا إلا ما هو استثنائي، الأفضل من أي أحد، أو الأسوء من كل أحد، أكثر الأنباء حزنا، أقسى المظاهر المادية، أغنى المشاهير، أجمل النساء. وهذا فقط ما يجذبنا نحن المشاهدين من الإعلام، أما الغالبيّة العظمى المتوسطة فليست بمكانة لتجذب انتباه أحد، من وجهة نظرنا! لذلك أصبحنا نرى الـ( الشخص العادي أو المستوى المتوسط) هو مستوى جديد للفشل، نقف فيه على رؤوس أصابعنا، لا تهنئُ لنا عينٌ، محاولين وبشتى الطرق أنْ نخرج منه ونصبح فريدين او استثنائيين بأي طريقةٍ ولو كانت فارغةً شكلًا ومضمونًا!.

إن كل ما نحتاجه هو أن نُسلّم بدُنيوِّيتنا، وعدم قدرتنا على تحقيق الكمال والتميز في كل شيء. يجب أن نتوقف عن قياس أنفسنا بمقياسٍ غيرَ الّذي خُلِقنا به، فما نحن إلا بشرًا لكلٍّ منّا جانبٌ يميّزه.

لربّما أنتَ أحد أهمُّ رجالِ الأعمالِ في العالم ولديك من الملايين ما تُؤمِّن بها حياتَك الماديّة سنواتٍ أمامَك، بينما تعودُ ليلًا منزلَك لتجدَه فارغًا، وتعلمُ أنّ تلك الاموال كلها لن تشتري لك عائلةً تحبُّك أو صديقًا يحمي ظهرَك!. وقد تكونُ "شخصًا عاديًا" وترى حياتَك لا تعني شيئا مالم تكن مُتفرِّدًا في أمرٍ ما..

ماذا لو تقبَّلت أنْ تكونَ "شخصًا عاديًا" من تلك الفئة المتوسطة و تيقنتَ بأنه لا يوجد إنسان مثالي؟!
إن الشخص الذي أصبح متميزًا و"استثنائي" لم يصبح كذلك لأنه رأى وجوده ضمن الفئة المتوسطة فشلًا! بل لأنه آمن إيمانًا راسخًا بأنَّه متوسطًا ولربّما دون المتوسط، وأنّ باستطاعته أن يكون أفضلَ من ذلك بكثير.. وهذه هي المفارقة الكبرى في الطموح، فلو أردتَ دائمًا أن تكونَ أذكى من هذا وأكثرَ نجاحًا من ذاك، أن تكونَ الأكثر شعبية، والأكثر قوة وقدرة ونفوذَا فقد أرهقتَ جسدك وعقلك وروحك دون أن تنال ما تريد.. تقول الكاتبة آن فوسكامب: " خذ معيارًا لتقيس به حياتك وقارنها مع أي شخص آخر، لقد أخذت لتوّك عصا وضربت بها روحك"!.

إن كل ما نحتاجه هو أن نُسلّم بدُنيوِّيتنا، وعدم قدرتنا على تحقيق الكمال والتميز في كل شيء. يجب أن نتوقف عن قياس أنفسنا بمقياسٍ غيرَ الّذي خُلِقنا به، فما نحن إلا بشرًا لكلٍّ منّا جانبٌ يميّزه، وعلينا أن نحقِّق ما نتمنى فقط لأننا رأينا ذلك النور والقدرةِ داخلنا، ولأننا أردنا أن نكون غدًا أفضلَ مما نحن عليه اليوم، دون أن نُطلِق احكامًا خادعة (خارقة) على أنفسنا أو نقارنها بغيرنا.

حينها وفقط، ستصبحُ لديك القدرة على أن تُقدّر كلَّ لحظةٍ في حياتك "المتوسطة": مساعدتُك لشخصٍ ضعيف، إبداعك في انتاج شيء ما، نعيمُ وجودِك مع زوجةٍ تحبّك وتحبّها، أو حتى فقط ضحكك مع ابنك!  وقطعًا هناك سبب وراء أن تكون تلك اللحظات ضمن الفئة "المتوسطة"! لَربما لأنها هي الأكثر "استثنائية"..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.