شعار قسم مدونات

في التركيز على الأجل القريب

U.S. President-elect Donald Trump speaks at the USA Thank You Tour event at the Wisconsin State Fair Exposition Center in West Allis, Wisconsin, U.S., December 13, 2016. REUTERS/Shannon Stapleton

يبدو أن تنصيب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة في العشرين من يناير/كانون الثاني من الممكن أن يجلب المزيد من التركيز على الأجل القريب في صنع السياسات الاقتصادية في الولايات المتحدة ومختلف أنحاء العالم. وإذا حدث هذا فيمكننا أن نتوقع المزيد من التباعد بين التدابير الرسمية والأهداف البعيدة الأمد، وخاصة في التعامل مع السياسة النقدية، والتنمية، والتجارة.

 

فيما يتعلق بالسياسة النقدية، يحضرني الآن ما حدث عندما كنت وزيرا للشؤون الاقتصادية في تركيا بعد الانهيار المالي في فبراير/شباط 2001. في ذلك الوقت، كان أحد أهم أولوياتي خفض التضخم في الأمد المتوسط إلى خانة الآحاد نزولا من مستوى تراوح بين 30% إلى 70% والذي ساد خلال العقد السابق. وبصعوبة كبيرة، نجحنا في إقرار قانون يمنح البنك المركزي في تركيا السيطرة المستقلة على أدوات السياسة النقدية؛ على أن تتولى الحكومة والبنك المركزي معا تحديد هدف التضخم، وهو ما اعتبرته الترتيب السليم.

 

في عام 2001، اقترب التضخم من 65%، وأراد صندوق النقد الدولي أن تلتزم تركيا بخفض التضخم إلى 20% في العامل التالي. ولكن بدلا من ذلك التزمنا بهدف خفض التضخم إلى 35%، ونجحنا في تجاوزه بخفض المعدل إلى 30% في عام 2002.

 

برغم الوقت "المهدر" على المشاريع الفردية، أثبتت الدراسات أن قوانين العطاءات التنافسية توفر المال في عموم الأمر وتحد من الفساد في الأمد البعيد.

المستفاد من هذه القصة هو أن البنك المركزي اكتسب المصداقية. فبعد تحديد الهدف بنسبة 35%، قمت بزيارة الشركات والأعمال في مختلف أنحاء البلاد، ورأيت أنها تجهز ميزانياتها على أساس معدل تضخم بين 50% إلى 55%. وعندما أكدت للقائمين على الشركات أن الهدف كان 35%، أعربوا عن تشككهم بابتسامات مهذبة. ولهذا فعندما تجاوزنا ذلك الهدف نزولا، أصبح البنك المركزي معروفا بكونه مؤسسة مستقرة وفعّالة وقادرة على خدمة مصالح تركيا لسنوات عديدة.

 

أصبحت البنوك المركزية المستقلة التي تتمتع بالمصداقية أصلا عظيم القيم في صنع السياسات الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم خلال العقود الثلاثة الماضية. وهي مثال جيد للفوائد المترتبة على التفكير في الأجل البعيد. من المؤكد أن البنوك المركزية ليست على صواب دائما؛ ولكنها أفضل كثيرا من لجوء الحكومات إلى هندسة تحسينات قصيرة الأجل بغرض الفوز في الانتخابات.

 

ولا يتلاءم التفكير في الأمدين القريب والبعيد بالضرورة في التنمية الاقتصادية أيضا. فكثيرا ما سمعت كبار رجال الأعمال يشتكون من أن قوانين العطاءات التنافسية تمنعهم حتى من "عقد صفقة" مع وكالات التنمية. ولكن على الرغم من بطء عملية الشراء وتدبير المستلزمات الشفافة التي تستبعد الصفقات السريعة، فهناك سبب وجيه للإصرار عليها. فبرغم الوقت "المهدر" على المشاريع الفردية، أثبتت الدراسات أن قوانين العطاءات التنافسية توفر المال في عموم الأمر وتحد من الفساد في الأمد البعيد. وإذا كان الروتين يتسبب في إبطاء العملية بشكل كبير، فإن الحل يكمن في تبسيط الإجراءات، وليس إلغاء العطاءات التنافسية.

 

على نحو مماثل، في مجال السياسة التجارية، ربما تنجح بعض تدابير الحماية في تحقيق فوائد سريعة لقطاع من القطاعات أو حتى دولة، وفي حالة إعانات دعم الصادرات المدروسة جيدا، ربما تدوم هذه الفوائد لفترة طويلة. ولكن في نهاية المطاف، عندما تتخذ دول أخرى تدابير انتقامية، وتصبح الحروب التجارية الشيء المألوف، تطغى التكاليف على الفوائد، ويصبح الجميع في حال أسوأ. والواقع أن منظمة التجارة العالمية أنشئت لمنع هذا السيناريو على جه التحديد، وقد نجح نظامها القائم على قواعد وإجراءات قانونية متفق عليها في كبح جِماح تدابير الحماية التنافسية عموما.

 

في هذا المجال والعديد من المجالات الأخرى، مثل سياسة المناخ، هناك مقايضة واضحة بين التفكير في الأجل القريب والاهتمام بالأمد البعيد. في عموم الأمر، ينبغي لأفضل السياسات أن تضع المنظورين في الاعتبار. ولكن بمرور الوقت، أصبح التفكير في الأمد البعيد السمة المميزة للحكم الرشيد. وكان جون ماينارد كينز محقا عندما قال "في الأمد البعيد سوف نكون جميعا في عِداد الموتى"، ولكن عمر الإنسان ربما يكون طويل الأمد حقا. وينبغي لنا أن نفكر أيضا في الكيفية التي قد يستفيد ــ أو لا يستفيد ــ بها الأبناء والأحفاد من الاختيارات السياسية التي نتخذها اليوم.

 

يميل القادة السياسيون الذين ينتمون إلى خلفية القطاع الخاص البحتة إلى تبني نهج أقصر أجلا من القادة الذين يتمتعون بخبرة في الخدمة العامة، خاصة وأن أغلب الأسواق تنتج الحوافز التي تدفع الشركات إلى التأكيد على الأرباح ربع السنوية والسنوية.

يميل القادة السياسيون الذين ينتمون إلى خلفية القطاع الخاص البحتة إلى تبني نهج أقصر أجلا من القادة الذين يتمتعون بخبرة في الخدمة العامة، خاصة وأن أغلب الأسواق تنتج الحوافز التي تدفع الشركات إلى التأكيد على الأرباح ربع السنوية والسنوية وأسعار الأسهم فوق كل اعتبار.

 

وعلى هذا فإن إدارة ترمب المقبلة، التي يغلب على تشكيلها أشخاص عملوا طيلة حياتهم في القطاع الخاص، من المرجح أن تؤكد على السرعة والصفقات السريعة وليس السياسات الطويلة الأجل وبناء المؤسسات. وربما يخلق هذا النهج مكاسب في الأمد القريب، أو ربما يُفضي حتى إلى نتائج مبهرة؛ وسوف يرحب العديد من المراقبين به باعتباره إفلاتا من البيروقراطية الإجرائية البطيئة. أما التفكير البعيد الأمد فهو يتعلق بمستقبل غير مؤكد، وربما تجري أحداثه على نحو مخالف للتوقعات.

 

ولكن إذا انتهت الحال بالقادة إلى ممارسة شكل متطرف من أشكال الاهتمام بالأجل القريب ــ ولنقل من خلال إقرار تخفيضات ضريبية كبيرة من دون زيادة ترافقها في الإيرادات، أو إضعاف المؤسسات العامة، أو فرض رسوم جمركية أو الانخراط في أشكال أخرى من أشكال الحماية، من دون وضع التدابير الانتقامية من قِبَل دول أخرى في الحسبان ــ فلن تدوم المكاسب طويلا. وفي كل من السياسة والاقتصاد، لا ينبغي لأي إصلاح أن يلحق الضرر بكامل البدن في سعيه إلى إصلاح بعض أعضائه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: بروجيكت سنديكيت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.