شعار قسم مدونات

سَرَبُ النُّور

blogs - human
ما الأمكنة والأزمنة التي نعيشُ إلا متغيرات مع رسالة خالدة، تستمد نور جذوتها من أمانة الإنسان، التي حملها جهولاً، وعلى موعد مع انتهاء حمل الرسالة، كُتب لروحي الجلاء من دنيا العبيد لسماء الخلود، تشير الساعة الآن إلى تمام الخوف إلا أملا والمكان حيز يختلط فيه الوعي واللاوعي، أما الحالة هنا جزء من الحياة، وكثير من الذكرى.

قد يختلطُ على الرجلِ الجهبيذ نفسه، يشعر حيناً أنه ابن الزمان أو المكان الذي يعيشه ولكني مؤمن بعمق أنني ابن الرسالة التي لها أحيا، فلا الحنين ولا كل مساحات الرغد تنقذنا من سطوة موعد رحيل باهت الوصول، ساطع التمنّي. خلل فني أرداني طريحا، والرمل يحفني من فوقي، ومن أسفل مني، صراخ يلف ما بقي من النفق، لم أعد أدركه، ومحاولات لنشل الجسد لأجل قيمة النفس، يحتاج الجسد ثوانٍ قليلة ليخرج من الوعي إلى اللاوعي ومن ثلاث دقائق إلى خمس على أقصى تقدير، حتى تفارق الروح الجسد.

أدخل النفق مُنحنِيَ الجسد إكراما للدماء التي خالطت التراب لحبيبات العرق التي ما استكانت غيثا تعد ليوم الصراع القريب.

الهواء ثقيل ممتزج بومضات ذكرى والدتي، والدي، زوجتي، وطفلي المنتظر الذي لم يبق على قدومه إلا شهر. مالي أسمع بكاءه، أهو قريب مني، أتراه يجاورني النفق، أو ينبش بيديه الغضة الرمال، من أجل إخراجي أملاً في أن يُصنع على عيني، ليصبح رجلا قادرا على حمل السلاح، ويخلفني في مسير التحرير.

زغاريد والدتي حين اختارت لي زوجة صالحة تصدح في فضاء النفق، فيتسع أفق الذكرى حين حدثتني أن العمر تقدم بي، ولابد لي من سند أتكئ عليه، يشاركني الحلم ويربت على روحي، حين الخوف، ويسند قلبي حين الانكسار، لترتفع علامات التعجب مني، من سيرضى والدها أن ترتبط برجل يحمل روحه على كفه، يقدمها رخيصة لأجل الوطن فما أنا إلا رجل كتب له القدر أن يكون مقاتلا، لترد بابتسامتها المنيرة كشمس صبح ماطر ثق بالله وعليه توكل وسيرضيك.

وباتساع السماء التي تكبر أكثر وأكثر في ذاكرتي يطل منها وجه والدي الشهيد البهي؛ فالرسالات العظيمة يتلقفها الصبي من والده، وما أنا إلا بعض من شموخ والدي؛ أذكره حين سمعت صدى قوله في قلبي يقول: النصر يا ولدي أو النصر.

يزداد ثقل الهواء والأنفاس تتباعد ويزيد ضغط الرمال فتتحد مسامات الجسد مع ذرات الرمال شوقا، وكأنها تذكرني: أنت بعض من آدم وآدم من تراب.

صلاتي الأولى أستذكرها إماما في عروسي بعيد الفرح، وقولتي الأولى لها أحبك لتداعبني حوارا " كيف تحبني وهناك من تشاركني بك روحا وجسدا، حقا ناقصة العقل أنا حين رضيت بك، عدني أن تحسن لي وألا تقارنها بي، فما يطيق قلبي غلبتها عليّ في كل مرة " لأجيبها والله ما أحببتها إلا لأجلك، فالحب بحريتها موعدنا.

يتسارع وقع الأقدام في حيز المكان، والأصوات تعلو أن أخرجوه. صوت احتكاك المعول بالتراب يحرك ما كان من اللقاء الأول بيني وبين النفق، "عين النفق" المدخل الأول لعالم أنفاق المقاومة تختلف أماكنها واتساعها بقدر الحاجة اليها وكذلك قربها عن السطح أو بعدها.

وقفت على عتبة العين أقرأ على أرواح من سبقني السلام، وأثبت الروح محدثا إياها هنا، بوابة الفصل بين الدنيا والأخرة، هنا بوابة الفصل بين العزة والذلة، بين الحرية والعبودية، هنا منطلق التحرير، وما اصطفاف الأحرار في طوابير الكرامات، والتضحيات إلا إشارة عزة، وعلى مقياس العمر كانت هذه لحظاتي الأخيرة على معصم الحرية.

أدخل النفق مُنحنِيَ الجسد إكراما للدماء التي خالطت التراب لحبيبات العرق التي ما استكانت غيثا تعد ليوم الصراع القريب، أتحسس جدران النفق أقرأ قصص من سبقني عن حياتهم، عن حبهم، عن أهليهم، عن أطفالهم، عن قدرة الله حين يثبتهم لحظات فرحهم، وحزنهم، عن أدق تفاصيلهم في حياة الأرض.

في هذه الزاوية كتبت قصة شهادة عبد الله، وفي ثنايا ذلك القوس حشرت يد محمد، فكاد يخسرها لولا عناية الله في آخر الممر أستذكر مباركات الرفاق لمحمود حين أخبرهم أنه سيتزوج قريبا، وللصلاة هنا في باطن الأرض طعم آخر وكذلك الإفطار في رمضان، أستذكر صوت مؤمن الذي حباه الله بمزمار من مزامير داود، الذي كان يدب فينا الأمل والقوة، عن ساعات العمل ومواصلة الليل بالنهار حفرا وبناءً وتوسيعا وتخطيطا.

هل تغدو الروحُ آبهة بطين الدنيا حين ارتقاء، ينقشع الظلام فجأة وتبصر عيني قبل روحي النور.

يقولون أننا لا نعرف الحب، ولا نفهم من الدنيا إلا لغة الموت، وأننا نفني زهرات العمر في باطن الأرض، هربا من الحياة، وما علموا أن الحياة والفرح والحب وكل ملذات الدنيا تجتمع هنا، عن المجد الذي نسطره بحبات العرق وقطرات الدم، وهل أجمل من أن نرى ابتسامة نصر، أو نوشح بعلم الشهادة، أن نكمل الطريق، أو نسلم المعول لمن خلفنا.

يتبادر لذهني حديث مسؤول الوحدة، حين اختزل جل ما كنا نتوقع أن نسمعه في قوله تعالى "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا".

على عتبة الخلاص أستذكر حمل زوجتي حين كنا نختلف ودا قائلة: أريدها بنتا، لأرد: أريده صبيا، بل بنتا لتثبتك هنا وتشير على قلبها، أقبل جبينها بل صبيا فتزيد في دلالها، بل بنتا لأقترب منها أكثر، وأثبت العين بالعين قائلا " كل ما يرزقنا الله به خير، صبي أم بنت، سأثبت حبهم على الطريق، وأشير بيدي لصورة القدس المزخرفة التي أهدتني إياها أمي مطرزة حين الزواج".

شمختُ شاهداً على عراكِ الموت بالحياة في مسرح روحي، ومجاعات الكرامة تنتظر مني ومثلي الكثير، وحُسنِ الفراق وترك الحياة هو اصطفاء إلهي، يختص الله به أحبابه، وهل تغدو الروحُ آبهة بطين الدنيا حين ارتقاء، ينقشع الظلام فجأة وتبصر عيني قبل روحي النور، لأخبر رفاق السلاح أن يخبروا رفيقة الدرب ليُسمى ابننا مجاهدا وليعمد في مهد النضال، وليُسقى من ماء الجهاد، فالولد سر أبيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.