شعار قسم مدونات

"بابا عاوزة أشتغل"

blogs- العمل

بدايةً هذا المقال ما هو إلا مجرد تعبير وجداني وليس إحصائي أو تحليلي عن واقع عمل مدته بسيطة وهي ستة أشهر فقط أي نصفاً من العام، ولكنها بعد التخرج مباشرة. ونوقن أنّ تجارب كل فرد تختلف عن الآخر بالطبع ولكني أحببت تدوينها للاطلاع عليها ما بين الحين والآخر، وحتى عندما تتقاذفنا الأيام ونهبط في عمل ما ونستقر به أو عندما نعلم بغيتنا الحقيقة ووجهتنا الصحيحة أو حتى عندما نكون غير عاملين نمنح أنفسنا فرصة المقارنة الصحيحة ما بين الأمس والحاضر ونقر بالخطوط العريضة، ما لنا وما للمجتمع من حقوق وواجبات في العمل.
 

كنت أحدّث أبي دائماً عن خططي المستقبلية وماذا سأكون فاعلة في كذا وكذا وبالمناسبة كانت خططاً كثيرة جداً، وكنت دائماً أخبره أنني أنتظر بشغف فرصة العمل وإنهاء الدراسة لأبدأ حياة مختلفة عن حياة الطلبة حياة مليئة بما أريده وأتمناه أنا فقط. وحينما كنا بالسنة الأخيرة من الجامعة كنا وزملائي نعدُ الأيام المتبقية يوماً يوماً لنبدأ انطلاقتنا التي تمنيناها منذ وقت طويل ولنرمي عن كاهلنا همّ وقلق الامتحانات وليالي الدراسة والتعب والسهر الطويل.
 

لا تجد في أغلب الأحيان ولو شخصين ينميّان من قدرة بعضهما البعض في العمل، بل يجعل كل شخص من نفسه قلعة حصينة يخبئ بداخلها أسراره ونتائجه والتي تصب في النهاية في مصلحته الخاصة.

كان لدينا أستاذ بارع في تخصصه، تزدحم مدرجاته وقت محاضراته دائما، أخبرنا قاعدة هامة في السنة الأخيرة "أنك إذا أردت عملك أن يكون جيداً وتؤديه بشكل لائق ما عليك إلا أن تكون جاداً وملتزما في عملك ومحبا لمعرفة أي شيء بتخصصك، وأن تكون دبلوماسياً في كل شيء في أول كل طريق فإذا أحكمت وأمِنت من حولك فافرض قواعدك وخطوطك التي تراها صحيحة" دونت وراءه كل شيء وصرت أُسمعها لأذناي كثيراً حتى أفهمها فأطبقها، وصرت أخبر بها من حولي ليعرفوا الطريق أيضا.
 

قرأت كثيراً عن مجال العمل وظننت أنه من السهل جداً اجتياز عوائق العمل طالما أنت محبٌ لما تفعل، وتقدّر عملك وتحاول دائماً التعلم وتسعى لفهم من حولك حتى وإن لم يسعوا لذلك، ولكني كنت مخطئة بشكل كبير فالعمل بشكل عام وبشكل خاص في وطننا العربي مؤذي في أغلب الأحيان. فمما اكتشفته من تجربتي أنَّ هناك قاعدةً أساسية للتعامل مع الأشخاص الجديدة، فتجد العاملين الأقدم منك يختبروك وهم ليسوا في موضع لاختبارك أصلاً، تجدهم بطريقة ما يستغلونك لعمل أشياء عدة بجانب عملك، فأنت جديد ويجب عليك أن تثبت حسن السير والسلوك الذي يتمثل في عدم الاعتراض وعدم إيضاح رؤيتك الكاملة للأشياء والطاعة غالبية الوقت مع ابتسامة عريضة مرحة تفيد بتقبل ذلك حتى وإن لم تتقبله.
 

العمل أيضاً ليس قائماً فقط على الخبرة العملية ولا جودة المنتج الذي تحاول أن تقدمه بل بشكل كبير قائم على العلاقات بين جميع أفراد العمل، وتلك ليست سيئة دائماً ومحاولة تيسيره بين بعضهم البعض والتي يمكن أن نسميها إذا كانت تقدم بشكل صحيح فريق العمل. والواقع يخبرنا أن تلك التسهيلات قائمة بشكل خاص على أفراد معينة، فإذا أحبك واستساغك فلان صاحب النفوذ في العمل فإن عملك سيصبح مريحاً وستكون محبوباً من الجميع، وعلى النقيض، إن لم تكن مقبولاً بين بعض الأفراد فإن عملك سيصبح عبئاً عليك حقاً كل يوم وبدلاً من أن تحبه ستكرهه بسبب أشخاص لا بسبب نوع العمل.

تلك النقطة مثيرة للاشمئزاز حقاً، فمن الممكن أن يكون هناك أشخاص مبدعون جادون فيما يقدمون ولكن بيئة العمل غير مناسبة، وإذا كانت بيئة العمل غير منوطة بضوابط للأفراد فيما يخص المعاملات اليومية بين بعضهم البعض فإن العمل سيكون عشوائياً منزوعا منه روح الفريق، غير بناء لا يرتقي بموارده البشرية وبالتالي لن يرتقي المنتج نهائياً الذي تحاول المؤسسة الوصول إليه.

تبدأ بمرور الوقت بالملاحظة والمشاركة فتعلم أن أغلب ما عرفت في مقدمة عملك ليس دائماً صحيحاً وأن عليك بهدوء وتروٍ أن تعرف وتفهم كيف تسير الأمور دون إحداث مزيد من الضجيج. لدينا مشكلة كبيرة أيضاً وهي عدم احترام الأشخاص بعضهم البعض، تجد أنهم يتحدثون أمام بعضهم وفي تجمعات علنية وخفية عن عيوب الآخرين أو حتى عيوب من أمامهم بسخرية وانتقاص من قدراتهم في أوقات عدة مما يوقع تأثيراً سلبياً عليهم جميعاً، ولا يقدمون النصيحة بلطف بل يحدثونك دائماً بأنه يجب ولا يجب وأنك مخطئ.
 

بعد كل هذا ترجع إلى بيتك محملاً بهموم كثيرة فتقول َ لنفسك كان يجب عليّ أن أفعل كذا وكذا في هذا الموقف وما كان عليّ أن أقول هذا كان يجب أن أكون أكثر حزماً مع هذا الشخص، وأن أعامل هذا الشخص بلطف أكثر المرة القادمة. لا تجد في أغلب الأحيان ولو شخصين ينميان من قدرة بعضهما البعض في العمل بل يجعل كل شخص من نفسه قلعة حصينة يخبئ بداخلها أسراره ونتائجه وما توصل إليه والتي تصب في النهاية في مصلحته الخاصة، فإذا عكسنا كل هذا ونمّى جميع أفراد العمل بعضهم البعض ووضعت ضوابط لضبط روح فريق العمل غير قائمة على التقبل الشخصي فقط لأفراد بعينها فسيصبح العمل الناتج رائعاً مفعماً بالطاقة وسلساً وبسيطا على جميع أفراده.
 

عندما نغيب عن العمل نشعر أننا -العاملون الجدد- كالطفل الصغير الذي لا يستطيع القراءة ولا الكتابة، ولكن بمرور الوقت والجهد ستستطيع فك شفرات الكلمات والجمل غير المقروءة لك سابقاً.

وحتى نكون منصفين ليس كل العمل سيئاً وليس هنالك إنسان مجبر طول وقته على الوجود بمكان لا يطابق متطلباته، العمل يشعر الإنسان بذاته، يشعر بأنه يستطيع أن يعطي ويقدم يكتسب من مجتمعه ويكسبه أيضاً فالعملية ليست تأثراً فقط بل تأثيراً أيضاً، ما نجهله بوضوح هو فقه الأولويات فلا تنتسب لمكان يستهلك جميع وقتك ولديك أولويات أخرى مفضلةٌ عليه كرعاية الأطفال إذا كنتِ أماً أو تفوقك بمجال آخر غير عملك وحبك له فلا تنتسب لمكان لا تشعر فيه بذاتك وكينونتك فعندما تشعر أنك ماكينة عمل فقط لا تعقل ولا تحلّل ولا تستنتج بل تقدم ما عليها أن تقدمه من عمل روتيني يومي اعتزل هذا العالم الضيق فوراً.

خلق الله لنا السموات والأرض وما فيهما وسخرهما للإنسان لييسر أمور الكون له التي استخلفه الله وأتمنه عليها وأبسط صور الأمانة في الكون، هي أمانة نفسك وحفظها من كل سوء وتحفيزها لا تثبيطها وتقويتها لا إضعافها وتمكينها مما تستطيع وتتقن فعله لا إيهامها بأنها لا تستطيع فعل شيء، فكل ميسر لما خلق له.
 

برغم ذلك ليست صورتي عن العمل شديدة السواد، ففي وقت ما ومكان ما ستذهب لعملك وأنت مفعمٌ بكل ذرة طاقةٍ فيك، ستذهب وأنت تشعر أنك إن غبت عن العمل سيفتقدك العمل ويسأل عنك ويخبرك أنه هو الذي انتقص منه، عندما نغيب عنه نشعر أننا -العاملون الجدد- كالطفل الصغير الذي لا يستطيع القراءة ولا الكتابة، ولكن من المؤكد بمرور الوقت والجهد ستستطيع فك شفرات الكلمات والجمل غير المقروءة لك سابقاً وستنشأ أنت الجمل التي تريدها، وستكون أيضاً -غير مبالغة- نبراساً لمن بعدك، وستبتسم في وقت لاحق عندما تستقر فيما تحبه وترجوه من بدايات عملك ورغبتك في تحقيق ما تريده وستقول نهاية الحمد لله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.