شعار قسم مدونات

فوبيا الفقد

blogs - حزن

تسع أعوام لم أكن بعد أبلغها حينما شاهدت أول مشهد حقيقي للموت، أذكر أني بكيت بسذاجة المدللين بضعا من الوقت قبل أن أنام ليلتها دون أدنى شعور بالمسؤولية؛ لأصحو صباحا أنظر إلى الحائط أمامي متكئة على جانبي الأيمن أحدق بعصاة أبي المعلقة على مسمار خصصته أمي ذات يوم لتلك المهمة.
 

دهشة أصابت عيناي الصغيرتان فرحت أحدق بعصاه وكأني أول مرة أرى تلك النقوش المحفورة على ساقها كثعبان يلتف على امتداد تلك العصا منتهيا بالمقبض المعكوف، فراح خيالي ينتظر هيئة أبي بقميصه الأزرق وبنطاله الكحلي وشعره الأسود الخفيف المصفف جانباً بإتقان أمي، حليق الذقن كثيف الشاربين كما اعتدته، بقامته الطويلة النحيلة التي أنهكها المرض، آتيا من بعيد يتحسس طريقه متفاديا بعصاه عثرات قد تؤلم قدميه المتورمتين، قبل أن يقطعني صوت الجمع في الخارج فأنسحب من فراشي لأقف أمام باب الغرفة دون أن يكترث أحدا بوقوفي، كانت تلك المرة الأولى التي لم أسابق بها أخوتي لرفع سماعة الهاتف وهو يقرع، ردت أمي بصوت لم يكن مسموعا منه سوى نحيب متقطع وبعضا من أنفاس محروقة مصحوبة بحمد الله وشكره على هذا الابتلاء لأدرك حينها أن في بيتنا فقيد أسمه أبي .

 

أنا يا أبي لم أعد أخشى الموت فنحن في عمّان أصبحنا نشتم رائحة جثث أهل الشام وغزة إلى أن أشبعتنا بالموت، لكنني أخشى الفقد طالما لازلت على هذا الكوكب أزفر أنفاسي.

صدقا.. لم أكن أعي أن الفقد مؤلما أكثر من ذلك يا أبت إلا حين كبرت، فاكتشفت أننا كلما كبرنا عاما فقدنا شيئا أو أكثر، شخصا أو أكثر، بلدا أو أكثر، ففي الثمانية عشر عاما التي غيبك فيها القدر عن شمس سمائنا هذه فقدنا بلدان كثيرة ولم تعد فلسطين هي فقط قضيتنا التي وشمت على امتداد جانبك الأيسر شظاياها فحسب، لقد فقدنا بلاد العرب يا أبت، بغداد وليبيا مرورا باليمن ومصر ودمشق وحلب، حتى السودان لم نحترم عذرية سماره وقسمناه إلى أن تهاوى، لقد تهاوت يا أبت كما تهاوت قصيدة موطني معها، نعم.. أخبر طوقان بذلك، أخبره أنها تهاوت وأننا لم نعد ننشدها بذلك الشموخ في طابورنا الصباحي بل أصبحنا ننسج على قافيتها كلمات السخرية وأن رددناها يوما بجدية نجد خناجر العجز تقف معترضة في حناجرنا يصارع أنفاس صدورنا والدمع يحاصر مقلتينا حيث يشبه نحيب أمي حين تهاويت أرضا ليلة وفاتك.

 

أنا يا أبي لم أعد أخشى الموت فنحن في عمّان أصبحنا نشتم رائحة جثث أهل الشام وغزة إلى أن أشبعتنا بالموت، أشبعتنا حد التخمة أو أكثر بقليل، متخمون بالموت نحن يا أبت لذلك نحن هنا لا نخشاه، لكنني أخشى الفقد طالما لازلت على هذا الكوكب أزفر أنفاسي، أخشى أن أنجب صبيا يستفز صواريخهم فتصيبه وتنثره أشلاء على امتداد نهر دجلة فأفقده، أو يقضي ابن أخي غرقا على سواحل قبرص إن لم يشتهي جسده حوت الأبيض المتوسط، أخشى يا أبت أن أنجب فتاة فأفقدها لتسمى لاجئة ترعاها خيمة ومنظمة حقوقية، فيتسابق المصورون بتصويرها كسبق صحفي كالطفل عمران فتحتل ملامحها الهشة عناوين أخبارهم وشاشات التواصل الاجتماعي، أو يصبح عويل ابنة أختي حين تفقدنا في ذلك الشريط المصور مادة دسمة لمخرجينا العظماء والنقاد السينمائيين يكذبونه تارة ويصدقونه تارة أخرى، أخشى أن أفقد آخر صورة التقطتها لأمي مع حفيدها الأول، أخشى أن أفقد صوت أمي، إزعاج أخي، جدران منزلنا أو حتى عصاك المعلقة على ذلك الجدار.

 

كل شيء يصبح يا أبت بكثرته معتادا إلا الفقد فإنه يصبح فوبيا، تسمى فوبيا الفقد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.