شعار قسم مدونات

"لنْ أتدخّل في قرارات وحياة طفلي"

blogs-ابن

القدرة على الإنجاب لا تُشكّل أي تحدّ يُذكر.. التّربية والإحسان بممارستها ليست تحدّيا بقدر ما هي واجب محتوم.. التّحدّي الحقيقي والأعظم هو أنْ تفعل ذلك دون انتظار للمقابل..! المقابل الذي يحمل أشكالا عدّة ومختلفة.. المقابل الذي يشرّع لك التّدخّل في خيارات أبنائك الشّخصيّة.. الذي يمنحك الحقّ في ممارسة سلطتك الأبويّة في فرض قناعاتك الشّخصيّة وتفضيلاتك الاختياريّة عليهم.. اختيار مساقاتهم التّعليميّة.. مساراتهم المهنيّة.. اختيار شريك الحياة.. انتقاء ذوقياتهم الجماليّة ليمارسوها..  اتّباع ما تدين به عقيدة وممارسة..

 

"لنْ أتدخّل في قرارات وحياة طفلي"

لا يمكن لك أن تقذفي جنينك من رحمك ليسقط رضيعا منزوع القوى والحيلة على أسفلت المدينة وتهمسي في أذنه تدبّر أمرك! وأنت ترين اكتظاظ الشّارع بالسيّارات ذهابا وإيابا وسير الغرباء على الأرصفة المجاورة!

تبدو ساحرة هذه العبارة وتحمل معان عظيمة كالحريّة والاستقلاليّة ورفض نهج الآبائيّة والتّبعيّة! لكنّها وللأسف خادعة بل وكاذبة والتّجربة العمليّة أثبتت فشلها.. وقائلها كاذب أو حالم ليس إلّا! إنّ الذي يستغني عن توجيه طفله سلوكيّا أو فكريّا لهو يوجّهه بلا أدنى شكّ إلى أمر ما أيّا كان! فانعدام التّوجيه هو توجيه بأوجه مختلفة.. حينما تكون مسؤولا عن حياة طفل من خلال تربيته وتنشئته.. ستتقافز إلى ذهنك كلّ الأسئلة الوجوديّة الكبرى.. ستهزّك مع كل فعل وردّ فعل تجاه طفلك.. خلال إكسابك إيّاه للعادات التي ترى أنّها صحيحة.. توريثك له لبعض الأفكار.. تلقيمك إيّاه بعض المعتقدات.. لكن لا مفرّ!

 

لا يمكن لك أن تقذفي جنينك من رحمك ليسقط رضيعا منزوع القوى والحيلة على أسفلت المدينة وتهمسي في أذنه تدبّر أمرك! وأنت ترين اكتظاظ الشّارع بالسيّارات ذهابا وإيابا وسير الغرباء على الأرصفة المجاورة! هناك أمور معدودة جبريّة تحتّمت علينا ونرزح تحت وطأتها لكنّها سنّة الحياة كاختيار الأمّ والأب والاسم والبيئة والمعتقد الدّيني! قد تكون هذه الأمور نعمة حقيقيّة وقد تكون نقمة وعبء حقيقي! تذكّر أنّ وجود بعضها سيظلّ حتميًّا لن تتمكّن من تغييره.. ستصل لمرحلة ما، تتمكّن من إعادة النّظر في تقبّلك لها وتعاملك معها وتبنّيك لها.. لكن تذكّر أنّها قد تكون نعمة وقد لا تكون.. وتذكّر أنّه ليس عليك أن تتجرّد منها بالكلّيّة لتمتّع نفسك بملكة الإرادة والاختيار التي ستنمو وتتطوّر لديك.. هذا على صعيدك الشّخصيّ أما دورك كَمُربٍ فالأمر يحتاج لوقفات جادّة..

 

التّربية هي توفير فرص مختلفة ليجرّب الأطفال تفاعلهم وانهماكهم وليتمكّنوا من ايجاد أنفسهم من خلال تلك التّجارب المختلفة كالتّجارب المهاراتيّة واكتشاف المواهب المختلفة والتّجارب العاطفيّة والروحانيّة.

مهمّة الآباء جلّها يكمن في مسألة التّوجيه والارشاد.. فإذا هي مسألة مفروغ منها ومن أهمّيتها ودورها.. السّؤال علام يجب أن يقتصر هذا الدّور وأي المهام التي يجب أن ينفّذها وأيّها لا يملك حقّ التّدخّل فيها؟! أنْ تدرك ماهية دورك الأبوي والتّربوي وتلتزم حدوده هنا يكمن الحلّ الذي لا يبدو هيّنا أبدا.. الوصول إلى الاتّزان بين (التّوجيه والإرشاد) وبين (منح حرّية الاختيار والإرادة) أمر غاية في الصّعوبة والتّوفيق بينهما وإحداث توازن آمن ليس مهمّة سهلة على الإطلاق! انّه شيء يجب أن يُحسن إدراجه وهيكلته في عقلية المربّين.. الأمر الذي يتطلّب إحداث خلخلة حقيقيّة في ماهية أدوارهم وإعادة فهم لها وإدراك حدودها..

 

فالتّربية هي توفير فرص مختلفة ليجرّب الأطفال تفاعلهم وانهماكهم وليتمكّنوا من ايجاد أنفسهم من خلال تلك التّجارب المختلفة كالتّجارب المهاراتيّة واكتشاف المواهب المختلفة والتّجارب العاطفيّة والروحانيّة.. ويستلزم بالضّرورة أنْ تنّمّي التّربية ملكة الإرادة وحرّيّة الاختيار تزامنا مع توفير تلك الفرص.. والتّحدّي الذي يُثبت نجاحك في مهمّة التّربية هو وقوفك عند حدودك حينما تنضج تلك الملكات عند ولدك وتجده يختار ما لا ترضاه أنت شخصيّا!

 

أن تتعامل مع أحزانك المحتقنة بداخلك بسبب اختيار ولدك لما لا ترغب به بعيدا عن استخدامه كوسيلة ضاغطة عليه ليغيّر قراره ويبدّل خياره.. أنْ تُدرك أنّ دورك يقتصر على الارشاد من خلال توفير فرص تجريبيّة.. لن تشكّل أي حتميّة على مستقبله.. أنْ تستسلم لفكرة أنّك لا تملك ولدك.. ولا تملك أن تقرّر مصيره.. قبل أنْ تختار أنْ تكون مربياً تأكّد أن ما سبق انغرس في تلافيف دماغك وتجذّر في بنية أفكارك.. أن تتحرّر من عقليّة التّربية بوجود "مقابل " لها.. لا يوجد مُقابل ستحصده من أبنائك إلّا برضاهم واختيارهم.. لا يحقّ لك أن تجبرهم على أي شيء.. لا تملك الحقّ في ذلك أبدا.. التّحدّي أن تمنح كل ما تملك من مشاعر وقدرات وإمكانات بكل إخلاص وصدق وتفانٍ لأطفالك دون أنْ ينتابك حسّ الإحباط عند أوّل مرّة وعند كلّ مرّة لا يتوافق خيارهم مع ما تهوى وتُحبّ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.