شعار قسم مدونات

التدين الفردي السائل في مصر

blogs - التدين

لم يكن انتهاء تجربة حكم الإسلام السياسي القصيرة جدًّا في مصر بهذا الشكل الدموي هينًا، بل حمل في طياته تغييرات اجتماعية ونفسية هائلة في المجتمع المصري سواء على مستوى شباب التيارات الإسلامية أو على أنماط التدين لدى الشباب عمومًا في مصر. والتدين الذي نقصده هو الذي يجمع بين الاعتقاد الصحيح "Belief" والممارسة "Practice"، وإنما اختلفت أنماطه حسبما يأخذ المسلم منه ويدع بباعث من نفسه (الأمارة بالسوء، اللوامة، المطمئنة) أو مجتمعه أو الخطاب الديني الذي يتلقاه ويشكل تصوراته، وتأويله صحيحًا كان أو خاطئًا.

 

أما التيارات الإسلامية سواء منها من اختار الممانعة كجماعة الإخوان المسلمين أو من اختار أن يكون ظهيرًا للسلطة كالدعوة السلفية، أو الشباب المستقل فقد دخلوا جميعًا ما أسماه الباحث أحمد سالم "حالة من السيولة فيما يتعلق بالأجوبة على التصورات الذاتية وسبل الاستجابة للتحديات المعاصرة" فهو إن لم يجد أجوبة من تنظيمه فسينحى منحىً فرديًّا إما سعيًا لحقيقة أو على الأقل حتى لا يخسر نفسه؛ وعلى أساس هذه الأجوبة أن يبقى دائرة الفعل السياسي أو قد يكون اختياره بائسًا بتبني بعض رؤى التيارات القتالية أو على النقيض أن يأخذ من دينه موقفًا سلبيًّا.

 

صارت الدولة هي المسؤولة عن الخطاب ونقيضه فتسمح تارة بخطاب يهدم الثوابت ثم ترتدي زي المدافع عن الإسلام بتصدير بعض الوجوه لترد على هذه الخطابات، وتضخم من قضية الإلحاد.

وبعدما كان عموم المجتمع يعاني من التسييس الفج أحيانًا من الإسلام السياسي لخطاب المسجد، فإن المسجد نفسه قد أعلن تأميمه -حصرًا- للدولة، إما بضم المساجد-الكبرى خاصة- للأوقاف أو عمل إجراءات تنظيمية للخطاب على رأسها الخطبة الموحدة والمواصفات القياسية للخطيب!،ولك أن تتخيل أن السجال الكلاسيكي حول "فصل الدين عن الدولة" صار حلمًا، فلا يتاح المسجد أصلًا للدعوة فضلًا عن مناقشة القضايا السياسية والاجتماعية بداخله، واستخدامه كقوة تعبوية ورمزية أثناء الثورة.

 

صارت الدولة هي المسؤولة عن الخطاب ونقيضه فتسمح تارة بخطاب يهدم الثوابت ثم ترتدي زي المدافع عن الإسلام بتصدير بعض الوجوه لترد على هذه الخطابات، وتضخم من قضية الإلحاد وتدعي أنها ظاهرة ثم تقول أنها تحاربه، تخلق التطرف وتسد منافذ الحرية ثم تقول أنها تقمع التطرف والتشدد، وهكذا.

 

إذا كانت فترة ما قبل الثورة المصرية هي الأنسب للدعاة الجدد إما لسحب البساط من تحت أقدام الإسلام السياسي أو أنه توجه مقنعٌ لأصحابه، فإن هذه الفترة هي الأقرب مناسبة أيضًا حيث النزوع الشديد لنوع خاص من التدين التصالحي، غير النضالي وليس مؤطرًا تنظيميًّا وسياسيّا فقط بل ربما معادٍ للإسلام السياسي جملة وتفصيلًا، لكن الأمر يختلف قليلًا في وضع القيود الاجتماعية حوله، فلا تكاد تجد أحدًا من الدعاة له درس بأحد المساجد، وطبيعة الموضوعات هي نفسها تقريبًا "الحكايات الكبرى" لما بعد الإسلام السياسي في مصر وهي التعايش والتآلف والتسامح ومحاربة الإلحاد والنجاح في الإسلام، ومن الصعب أن تجد مشروعًا شبابيًّا كـ"صناع الحياة". الذي قام به عمرو خالد من قبل.

 

الطريق إلى الفردانية الصلبة يبدأ من استكمال النقص العلمي والمعرفي حتى تتحول إلى فردية ناضجة وواعية لا مشوشة وتائهة ومجرد رد فعل على حالة اجتماعية سيئة.

يتلون هذا النوع الجديد (القديم) من التدين بنزعة صوفية واضحة بأعراضها الانسحابية عن المجتمع، لديها الشغف بالانعتاق والتحرر الفردي، يتصور الشاب نفسه كأنه المولوي الذي يدور في حركة دائرية بقوة حتى تسقط تنورة الرقص فينعتق، ولعل من الملاحظ انتشار مثل هذا الشغف بالفنون والرقص الصوفي والمولوية المشتقة من "مولانا جلال الدين الرومي" الذي قال: لا يفنى في الله من لا يعرف قوة الرقص، والحرص على حضور هذه الحفلات والانبهار الشديد بها.

 

يجمع بين كل هذه الأشكال الفردانية الواضحة وهذا ليس عيبًا في ذاته، بل المشكلة أن تتبنى في النهاية رؤية التنمية البشرية الأمريكية المتمركزة حول القيم البروتستانتية من تركيزٍ على النجاح الفردي والسعي للثروة والنجاح الدنيوي كما تقول الدكتورة هبة رؤوف عزت، وتضيف أنه إذا كانت ثمة فردانية فلتكن فردانية صلبة وليس بالضرورة أن تكون علمانية سائلة.

 

والطريق إلى هذه الفردانية الصلبة يبدأ من استكمال النقص العلمي والمعرفي حتى تتحول إلى فردية ناضجة وواعية لا مشوشة وتائهة ومجرد رد فعل على حالة اجتماعية سيئة. التدين السائل يشعر المرء بحالة من الاغتراب وهو سجن آخر كسجن التنظيمات فيجب أن يخرج منه إلى رحابة مسؤوليته ناحية المجتمع والقيام بفروض الكفايات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.