شعار قسم مدونات

جدران الذاكرة.. الدم والزمن والتيه

BLOGS- السجن
قد يحدث أن تجلس مع أُناس يتكلمون لغة لا تعرفها فتشعر بالغربة، وقد يحدث أن تجالس أُناسا من بلدك ويتحدثون بلسانك فتشعر بغربة أيضا، الشعور قد يكون صحيحاً حينا ومجرد مرض أحيانا. غربتك في الإنسانية قد تبدأ مع أول قطرة دم تتدفق في وريدك ثم تتلو القطرة قطرات، أيام مضت وسنين ولا تزال إنسانيتنا مخبأة خلف جدران الذاكرة، جدران مقسمة بحسب القدر الأكبر من الآلام لدرجة أنك إذا حاولت استدعاء الإنسان فيك قد لا تجده فهنا جدار الدم، وهناك جدار توقف الزمن، وذاك جدار التيه.
 

جدار الدم وفيه صحة إدراكك تعني استجابة ردة فعلك؛ بكاء وصراخ تسمعه بعد انتهاء المجزرة مثلا، ولكن خلالها تكون في لحظة تمثل نصف وعي أو نصف إدراك وحتما نصف إحساس؛ ترى نصف المشهد فرؤيتك ضبابية، تتساءل إذا ما كان ما يحدث هو الواقع، في وقت يحاول عقلك أن يقنعك أنه مجرد حلم، هل يعقل أن العقول التي تشظت جماجمها صورة حقيقية؟ هل المرأة التي تبكي وتنوح فوق جثث وأشلاء ليست خيالا، وفي النهاية يصبح مشهد الدم اعتياديا.
 

الشخص الذي يعيش في هذه الدنيا في إطار ضيق ولا يحيا إلا من خلال مادّيتها هو سجين الكون، حبيس داخل جسده، هو يجهل حقيقة سجنه إلى أن يأتي موعد الخروج من الوطن.

ما هي الكمية التي على الأرض أن تشربها من الدماء الزكية لننتهي في غربة عن الإنسانية، أليس هذا كافيا؟ كم أُريد أن أمسك المعول وأضرب بكل ما أُوتيت من قوة هذا الجدار كي ينقض ويتحول سرابا. أما جدار توقف الموت -عفواً لقد أخطأت- جدار توقف الوقت أو الزمن، هنا قد يكون الموت ملاذا لك، قد تنشده أحيانا ولا تتحصل عليه، فالموت قبالة هذا الجدار هو قمة الرفاهية.

ثلاث محطات عند هذا الجدار، هنا الماضي الذي يمر بكل تفاصيله لحظة لحظة، والحاضر الذي يمر ثقيلا وفيه يتحرك عقرب الثواني فقط، بينما يغرق عقرب الساعات في السكون، أما المستقبل غير المعلوم فيملأ زنزانتك بالضباب، بالكاد ترى نمرتك أو فراشك الذي تجلس عليه، فكأننا متوقفون عند اللحظة التي انتهت فيها حريتنا يوم الأسر على حين كان العالم يسير، وكأن ساعة كل أسير حينما انتزعت من يده لحظة وقوعه في الأسر، توقفت الأرض عن الدوران حول نفسها، ربما ستنسى أن هناك حياة أخرى في الخارج..

ومع زحمة التفاصيل الفارغة ستتوقف عن عد الأيام والشهور التي كنت تخطها على نفس الحائط عند التعذيب والجلد حيث إذا بدأت عد الضربات حتما ستضعف أو تجن، نعم ستجن هذا ما أصاب صديق الزنزانة، بدأ يفقد عقله ويتوهم أشياء لا تحدث، بكيت شفقة عليه وعلى نفسي، هاجسي الأكبر كان أن أُجن، فالسجون العربية عامة والمصرية خاصة لم تكن يوما للتهذيب والإصلاح، إنما لكسر الانسان وإذلاله، لقتل إنسانيته.

الفائض الرئيس في السجن هو الوقت، هذا الفائض يتيح للسجين أن يغوص في شيئين الماضي والمستقبل، وقد يكون السبب هو محاولات السجين الحثيثة للهرب من الحاضر ونسيانه نسيانا تاما. والغوص في هذين الشيئين قد يحولك إما إلى إنسان حكيم هادئ أو إلى شخص نرجسي عاشق لذاته ومنكفئ لا يتعاطى مع الآخرين إلا في الحدود الدنيا، أو إلى شخص حبيس الذكريات، هكذا قال زميل الزنزانة مصطفى من قوقعته.

بداية فترة اعتقالي لسان حالي كان "اللهم فك أسري"، وبقي الدعاء هذا رفيق لساني حتى بعد أن خرجت من المعتقل، كنت أبكي خوفا من أن أظل حبيسا لهذا الجدار، وبعد مدة وعيت هذه المعادلة، أي معادلة الوقت، حاولت جاهدا أن أتحول إلى ذلك الإنسان الهادئ، ولا أدري إلى أي درجة نجحت، ما أعرفه جيدا أني فقدت لغة التواصل مع الناس، حتى رغبتي في إيجاد لغة تواصل جديدة ماتت، كما أنني لا أرغب في إحياء القديمة، وقد تكون هذه الحالة هي ما أوصلني إلى الجدار الثالث: التيه.

إن هذا الكون الذي نعيش فيه بمادياته يتسع لجسدي الذي ومهما كبل بقيود ستحرره روحي كجوهرة قوقعة وسأعود حتما إلى إنسانيتي.

أعتقد أن الشخص الذي يعيش في هذه الدنيا في إطار ضيق ولا يحيا إلا من خلال مادّيتها هو سجين الكون، حبيس داخل جسده، ولعل المفارقة هنا أن يجهل حقيقة سجنه إلى أن يأتي موعد الخروج من الوطن. أي الهمّين هو الأكبر في لحظات الانهزام؟ الهمّ الشخصي لعذاب الذل والأسر والتيه وفراق الأهل، أم همّ الوطن المهدد والذي تفجر الخوف عليه في الصدور فطفح فوق الأحداق؟

أخرجتني الأرض وأخرجت قبلي وبعدي تائهين كُثُرًا، منهم من شرد في خروجه إلى الصحراء حيث مات، ومنهم من لاقى صنوفا من الويلات والعذاب في الطريق من جوع وخوف، كصديق لم يتجاوز الـ 16 ربيعا؛ اضطر لقطع الحدود سيرا كي ينعم بأمان خارج الوطن، لماذا تُخرج يا صغيري؟ لماذا خرجنا لندور في رحى الكون، تائهون في غربه مثل اليتامى دونما اختيار، بعد أن لفظنا الوطن، إلا أن المكان الذي خرجنا منه هو الذي خرجنا اليه، هربنا من سجن الوطن الصغير لندخل بأرجلنا لسجن الكون الفسيح، لكن متى ندرك هذه الحقيقة؟ تصعب الإجابة فمن يعيش ناكرا لمحيطه ولا يتعامل مع دنياه هو سجين أيضا.
 

كبشر نحن منقسمون إلى كيانين، كيان مادي ماهيته جسد ينتمي إلى الأرض، وكيان روحي ينتمي ويفيض إلى العلا، إن هذا الكون الذي نعيش فيه بمادياته يتسع لجسدي الذي ومهما كبل بقيود ستحرره روحي كجوهرة قوقعة وسأعود حتما إلى إنسانيتي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.