شعار قسم مدونات

الولايات الأميركية غير المتحدة

flag
بين مؤيد ومعارض يبدو أن حقبة جديدة ستلقي ظلالها على الولايات المتحدة الأمريكية، فمن حضور وصفه السياسيون بالضئيل في يوم التنصيب إلى احتجاجات سادت بعض الشوارع الأمريكية؛ اعتراضاً على الرئيس المنتخب.

 

ونظراً للسياسات التي توعد بها ترامب العالم أجمع، تلك السياسات التي باتت تتضح يوماً بعد يوم، من فرض إجراءات مشددة على الهجرة والمهاجرين إلى البدء بمشروع بناء جدار على حدود المكسيك، فإن العديد من السياسيين عادوا ليكتبوا مجدداً عن السيناريوهات المتوقعة، وعادت نبوءة حدوث تغير جذري في الولايات المتحدة، وكأنني أقرأ مذكرات الذين تنبؤوا بانهيار الاتحاد السوفييتي سابقاً.

لقد دقت أمريكا المسامير الثلاثة الأخيرة في نعشها، بداية من حرب فيتنام مروراً بحرب أفغانستان والعراق التي قلبت الموازين في الشرق الأوسط وأنتجت مؤخراً كتلاً من الجماعات الإرهابية، حيث تعد الفوضى العارمة التي عمت الشرق الأوسط من الأخطاء الفادحة والتاريخية للإدارات الأمريكية، ونهاية بالأزمة المالية العالمية التي اندلعت في خريف عام 2008 وأقتبس من أقوال ألفريد ماكوي أستاذ التاريخ في جامعة وسكنسون الأمريكية أن الولايات المتحدة لعبت دور القوة العظمى في الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب إلى انهيار متوقع بسرعة لم يسبق لها مثيل.

إذا كانت الولايات المتحدة تمني نفسها بأنها ستظل القطب السياسي والاقتصادي الأكبر في العالم حتى عام ألفين وخمسين؛ لتستكمل ما يوصف بالقرن الأمريكي، فإن هذا على ما يبدو لا يشكل سوي حلم كاذب لا تدعمه معطيات الواقع الراهن بكل تفاصيله

كما أوضح ماكوي الذي أقتبس منه: "إذا كانت الولايات المتحدة تمني نفسها بأنها ستظل القطب السياسي والاقتصادي الأكبر في العالم حتى عام ألفين وخمسين؛ لتستكمل ما يوصف بالقرن الأمريكي، فإن هذا على ما يبدو لا يشكل سوي حلم كاذب لا تدعمه معطيات الواقع الراهن بكل تفاصيله الجديدة المعقدة سواءً على مستوى الواقع المحلي في أمريكا نفسها أو على مستوى العالم بأسره". برأيي، ليس من الضروري أن يعني انهيار الولايات المتحدة أن تختفي من على خريطة العالم أو تفككها جغرافياً، مع عدم استبعاد حدوث أي أمر مما سبق، بل يعني أن تخرج اللعبة السياسية الدولية من بين أيديها، أو بمعنى آخر أن تتحول من المهيمن الأول إلى مجرد طرف مثل دول أخرى.

إن همًّ الولايات المتحدة كان -ولايزال- في التحول إلى قوة عظمى وحيدة تسيطر على الكوكب وتتحكم في شؤونه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن ما حدث هو أن قوى أخرى صعدت خاصةً بعد تكوّن الاتحاد الأوروبي والتطور الصناعي الكبير الذي أحرزته اليابان، وهذا الأمر حال دون ظهور عالم أحادي القطبية.

والجدير بالذكر أن الصعود المستمر لهذه القوى واحتمالات تحالفها مع قوى أخرى مناهضة للولايات المتحدة كروسيا والصين يجعل من الصعب استمرار الحال على ما هو عليه. مع الأخذ بعين الاعتبار أن التأثير الصيني على العالم لن ينحصر في الاقتصاد، بل سيكون سياسياً وثقافياً وعسكرياً، وقد يكون أكثر مما أثرت به أمريكا طوال عهود مضت.

وإذا سعت أوروبا -على سبيل المثال- إلى زيادة قوة القيمة العالمية لليورو، فربما تصبح عملتها في يوم ما نداً قوياً لسيطرة الدولار على الأسواق الدولية، وأعتقد أننا حالياً نرى ذلك يتضح تدريجياً في الوقت الراهن، مع أن الدول الأوروبية الكبرى ترى أن مصلحتها في الإبقاء على دور الولايات المتحدة كذراع قوية تمهد الطريق أمام شركاتها الضخمة لتبقى مسيطرة على دول العالم الثالث، وربما تكون هذه المصالح مانعاً للأفول المتوقع للولايات المتحدة في المستقبل.
 

تحاول الولايات المتحدة أن تلجأ إلى أساليب للإبقاء على نفسها كقوةٍ عظمى، من خلال ممارسة بعض الأدوار المزيّفة وإقناع المجتمع الدولي بضرورة الإبقاء عليها في موضع الصدارة؛ من أجل ممارسة هذه الأدوار. فتارة تظهر كراعٍ أول للديمقراطية في العالم، وتشنّ الحروب على ديكتاتوريات ضعيفة؛ للتأكيد على ذلك. ولكنّها من ناحية ثانية تتحالف مع أنظمة سلطوية، وفي هذا الوقت تدعي أنها تقود العالم لمحاربة الإرهاب، ونستنتج من هذه الأساليب عجز الولايات المتحدة عن تأدية دورها السابق على مستوى العالم، فهي الآن لا تقدم إلا الحروب والأزمات.

في عام 2008 اعترف مجلس الاستخبارات القومي التابع للحكومة الأمريكية للمرة الأولى أن السلطة العالمية للولايات المتحدة تتدهور بمرور الزمن، ومع أن أوباما حافظ على التوازن في الداخل الأمريكي، واستطاع أن يدخل هذا التدهور في سبات مؤقت نوعاً ما، إلا أن ترامب الآن يعيد تجييش السياسات التي من شأنها أن تحرك عجلة التدهور من جديد، وربما إلمام ترامب بأن السلطة العالمية للولايات المتحدة قد تراجعت جعلته يرفع شعار: "لنجعل أمريكا عظيمة من جديد"، وهناك دليل واضح على ذلك.

ومع تراجع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة المتوقعة في عام2020، سيعاني الشعب الأمريكي من ارتفاعات هائلة في الأسعار وفي معدلات البطالة والذي سيسفر -عاجلاً أم آجلاً- عن اضطرابات اجتماعية وعرقية قد تهدد النسيج الاجتماعي القومي الأمريكي.

أما بالنسبة للدولار الذي تعتبره الولايات المتحدة أداة من أدوات هيمنتها السياسية والاقتصادية على العالم، فإن هناك مطالب عالمية متزايدة بأن تحد البنوك المركزية في شتي أرجاء العالم من مشترياتها من الدولار ومن سندات الخزانة الأمريكية وذلك بعد ان وصلت قيمة حيازة هذه البنوك من هذه السندات -حسب الاحصائيات-إلى ما قيمته اربعة تريليونات دولار. وقد دفع هذا الامر الرئيس الروسي الي وقف هيمنة العملة الأمريكية على النظام النقدي العالمي.

وسيؤدي هذا الأمر مستقبلاً إلى عجز الولايات المتحدة عن سد العجز الهائل في موازناتها العامة وفي موازينها الاقتصادية؛ حيث تبلغ قيمة العجز في الميزانية الاتحادية الأمريكية أكثر من تريليون وثلث التريليون دولار.
 

هذا الأمر سيؤدي على الأرجح إلى زيادة قيمة الواردات الأمريكية، وستعجز واشنطن عن تسويق سنداتها التي تبيعها الآن للعالم بسعر لا تستحقه وبفائدة بخسة. أما النتيجة النهائية لذلك، فسوف تتمثل في اضطرار الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانكفاء على ذاتها عسكريا وذلك عبر سحب قواتها من كل بقاع العالم بعد تقليص الميزانيات العسكرية. ومع تراجع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة المتوقعة في عام2020، سيعاني الشعب الأمريكي من ارتفاعات هائلة في الأسعار وفي معدلات البطالة والذي سيسفر -عاجلاً أم آجلاً- عن اضطرابات اجتماعية وعرقية قد تهدد النسيج الاجتماعي القومي الأمريكي، وهو ما يجب على ترامب أخذه بعين الاعتبار؛ لأنه ومع إجراءاته التي توعد بها سيكون ذلك بمثابة النفخ في الموقد.
 

ومن الناحية المجتمعية، فإن أغلبية الشعب الأمريكي -وكما توقعت تماماً- يقف الآن إلى جانب المجتمع الإسلامي الأمريكي ضد ترامب وتصريحاته النارية؛ الأمر الذي سينتج انقساماً مجتمعياً وتوليد أنسجة مجتمعية جديدة، وها هنا نرى كيف أن لعبة أمريكا تنقلب ضدها بالنهاية، ربما سنرى بعد ذلك ولايات تنفصل وتستقل عن الاتحاد الذي تأسس في 4 يوليو 1776، كما حدث للاتحاد السوفييتي من قبل، ربما ليس بشكل كلي لكن على الأقل سنرى انقساماً داخلياً قد يترتب عليه مشاكل مستقبلية.

إذا كان الرئيس الأمريكي المنتخب يريد حقاً أن يجعل "أمريكا عظيمة من جديد" فعليه خلق المزيد من التعايش بين أنسجة المجتمع المختلفة، لا التلويح بشعارات عنصرية، عليه أن ينهي دور صناعة الحروب والأزمات وصنع طاولة حوار عالمية، عليه حقاً أن ينهي دور الكواليس الخفية التي تدير الحروب والمذابح لتحقيق المصالح الشخصية، عليه أن يردع الدول التي تسعى لإخلال الأمن في الشرق الأوسط بشكل جدّي، عليه أن يحرر الثروات من أيدي المحتكرين لها، إن ما يصنع الدول العظيمة، "رجالُ مواقف لا رجالَ متاحف".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.