شعار قسم مدونات

السودان يدفع نقدا ثمن التطبيع مع أميركا

blogs-السودان

حكمت محكمة أمريكية بأن يدفع السودان تعويضات لضحايا تفجيرات المدمرة كول، والتى قتل فيها 17 بحار أمريكي قرب شواطئ اليمن عام 2000. وكانت الأحكام المذكورة قد أتت بعد دعوة رفعها عدد من أسر الضحايا في العام 2010، وقد قررت محكمة الاستئناف بنيويورك والتي نظرت القضية بأن يدفع السودان أكثر من 300مليون دولار للضحايا، وكانت الشبهات قد دارت منذ سنوات حول مسؤولية السودان عن هجوم القاعدة على المدمرة "كول".
 

من المعروف أن نظام السودان تحت قيادة البشير استضاف بن لادن وعددا من قيادات الحركات الجهادية خاصة الفارين من أفغانستان منذ بداية حكمه في 1989. ونتيجة لهذه العلاقة الوثيقة وضعت الإدارة الأمريكية السودان ضمن الدول الداعمة للإرهاب منذ منتصف التسعينات، مع دول مثل إيران والعراق. وفرضت إدارة كلينتون عزلا وحظرا على السودان. وأبان إدارة بوش الابن وتزامنا مع اندلاع الحرب في دارفور تمت مضاعفة العقوبات الاقتصادية والعسكرية على السودان.
 

بعد الربيع العربي والذي تزامن مع انفصال الجنوب، وقع السودان تحت ضغط اقتصادي كبير نتيجة لفقدانه معظم عائدات النفط التي ذهبت للدولة الجديدة

حاول السودان التعايش مع العقوبات طوال ربع قرن، ونجح النظام السوداني في اختراق العزل وخاصة الحصار الاقتصادي عبر التحالف مع إيران والصين وروسيا طوال تسعينات القرن الماضي. ونجح النظام في استغلال النفط في جنوب البلاد، الأمر الذي قاد في النهاية إلى فتح مسار تفاوض لإحلال السلام في جنوب السودان الذي كانت تدور فيه حرب أهلية لنصف قرن.
 

و نسبة للعلاقة الوثيقة لقادة الحركة الشعبية – التي تقود الحرب الأهلية من جنوب السودان – بأمريكا، كان رفع العقوبات الاقتصادية احد اهم دوافع النظام السوداني للاتفاق مع الجنوبيين. كما أن الامل في رفع العقوبات قاد النظام السوداني لتنفيذ اتفاق السلام الشامل(2005) بل وقبول تقرير الجنوبيين لمصيرهم والانفصال عن الشمال في 2011.
 

لكن رغم تنفيذ السودان لتعهداته المتعلقة بالجنوب، إلا أن أمريكا لم تنفذ وعدها برفع العقوبات، هذا إضافة إلى حقيقة أساسية وهي أن السودان، وباعتراف الاستخبارات الأمريكية، قد قام منذ نهاية التسعينيات بدور فعال في مساعدة أمريكا والتعاون في مكافحة الإرهاب، بل طرد السودان من أراضيه جميع المشتبه بهم وعلى رأسهم بن لادن.
 

وفي السنوات الأخيرة وبعد الربيع العربي والذي تزامن مع انفصال الجنوب، وقع السودان تحت ضغط اقتصادي كبير نتيجة لفقدانه معظم عائدات النفط التي ذهبت للدولة الجديدة. وبالتالي أصبح السودان أكثر استعدادا لدفع قدر أكبر من التنازلات في سبيل رفع العقوبات، لكن الوضع الداخلي في السودان والمشتعل بحروب في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، أدى إلى تردد أمريكا في الرفع الكامل للعقوبات. ولا زالت الإدارة تشترط على السودان وقف الحروب الأهلية الداخلية وتحسين حقوق الإنسان حتى يتم رفع العقوبات.
 

لكن الدور الذي يلعبه النظام السوداني مؤخرا في المنطقة العربية والأفريقية يبدو أنه يشكل دفعة في موقفه عند الإدراة الأمريكية، فحرب اليمن والصراع الدائر في جنوب السودان، صنع للسودان مكانه سياسية وعسكرية وثقلا جديدا، هذا إضافة لأزمة اللاجئين التي جعلت الاتحاد الأوروبي يتخذ من النظام السوداني شريكا لمكافحة الاتجار بالبشر.
 

السودان ربما سيضطر للدفع نقدا ثمن مساهمته في دعم الإرهاب مطلع التسعينات بعد أن تعاون في تقديم المعلومات الاستخباراتية لأمريكا لسنوات

وفي ظل هذه الظروف السياسية الجديدة يحاول النظام في السودان التحرك بقوة لاستغلال اللحظة، حتى يخرج من مأزقه الاقتصادي الخطير والذي تفاقم منه العقوبات الأمريكية، فالسودان يجد صعوبات جمة في التحويلات المالية الدولية بسبب العقوبات، خاصة وأن التصدير الزراعي واستخراج الذهب أصبح المورد الوحيد للدولة.
 

في العام 2015 كانت وزارة العدل الأمريكية قد حجزت أموالا تصل إلى 3 مليارات دولار من بنك "بي إن بي باريبا" الفرنسي، واتهم البنك بخرق العقوبات الاقتصادية على كل من السودان وإيران ، ومساعدة تلك الدول في تجاوز العقوبات وتهريب الأموال، وقد صدر قرار لاحقا يجيز أن تستعمل هذه الأموال في تعويض الضحايا الأمريكيين من الهجمات الإرهابية التي أسهمت فيها تلك الدول.

وفي ظل هذا المشهد يبدو أن السودان ربما سيضطر للدفع نقدا ثمن مساهمته في دعم الإرهاب مطلع التسعينات بعد أن تعاون في تقديم المعلومات الاستخباراتية لأمريكا لسنوات، إلا أن التعاون وحده لا يبدو كافيا. أما الدفع نقدا ربما سيكون سبيلا أخيرا لإنهاء العقوبات الاقتصادية. مما يذكرنا بالتطبيع الأمريكي مع ليبيا بعد أن اضطرت لدفع التعويضات لضحايا طائرة "لوكربي" حتى تنهي العقوبات الدولية عليها التي استمرت قرابة عقدين أيضا. إذن يبدو أن السودان سيضطر الي أن يدفع من امواله ثمن خروجه من أزمته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.