شعار قسم مدونات

في مقابلة عمل

Blogs -interview

لا يذكر لهذا اليوم تاريخ، لكنه محفور في ذاكرتي ، فله كل الفضل في طردي من عالم الأحلام وإرسالي إلى عالم الحقيقة العارية دون تجميل الآمال.
 

في يوم خريفيّ من الأيام حرضت طموحي وزينت كلماتي وشكلت ابتسامة على شفاهي مقتنعة حق الاقتناع أن الابتسامة تصنع المعجزات، أمسكت حقيبتي المحمَلة بأحلام الطفولة اللاّمتناهية وسذاجة إيماني بتحقيقها و توجهت نحو أول مقابلة عمل رسمية أقوم بها بعد تخرجي من الجامعة، كنت أقطر أملا وأفيض حماسة مثلي مثل كل الشباب الذين تحصلوا على شهادة جامعية حديثا فرحين بإثمار جهودهم بعد عناء طويل =.

حملت حقيبة أحلامي التي تحولت إلى خيبات و خرجت كطفل مغلوب اغتيلت كل أحلامه، فجأة تحول عالمي الوردي إلى عالم رمادي و أصبح المستقبل ضبابيا أمامي.

توجهت نحو مقر مؤسسة صحفية و هي عبارة عن جريدة يومية قامت بوضع إعلان في سبيل البحث عن صحفيين، أو هذا ما ظننته في بادئ الأمر، أول ما دخلت من الباب حتى انهمر عليّ وابل من الأسئلة "من أنتِ؟ عمن تبحثين؟ ماذا تريدين؟ كيف سمعت بالإعلان؟ والكثير من الأسئلة في هذا السياق والتي جعلتني أحس نفسي في مقابلة مع كل عامل في المؤسسة ابتداءً من الحارس إلى رئيس التحرير.

بعد أن تبينوا غايتي من الحضور طُلب مني الجلوس في غرفة الانتظار مع مجموعة من الأشخاص حتى يحين دوري، طال انتظاري وطالت النظرات المتبادلة في الغرفة والتي تحمل في طياتها الكثير من التهم، حتى كسر أحدهم الصمت بكل جرأة سائلاً من منا لديه واسطة في هذه المؤسسة؟، جوابي كان عبارة عن اتساع في عينيّ وذهول بادي على ملامحي ولكن الشخص السائل استرسل في الحديث معلنا أنه يريد أن يضعنا في الصورة وأن هذة المؤسسة لم يسبق لها قبول شخص دون واسطة، وما إن انتهى حتى بدأت الصراحة بالتهاطل وكل شخص تكلم بما يعرفه عن خبايا هذه المؤسسة من بينها أن صاحب الجريدة شخص دون المستوى ورث الملايين فقرر أن يستثمرها في مجال الإعلام!
 

في بادئ الأمر ذهلت لكن ما إن حان دوري وتقابلت مع رئيس التحرير حتى عرفت أن ما سمعته لم يكن إلا "تسخينات" للبداية في التمرين الأساسي، ألقيت السلام وحاولت التعريف بنفسي لكن جاء صوت أجش منبعث من رئيس التحرير مقاطعا لي بلسان فرنسي طالبا مني أن أقدم له سيرتي الذاتية، بلعت كلماتي ولبيت طلبه، حمل سيرتي الذاتية قرأها و هو يغالب الضحك، تملكني الخوف و التأنيب، سارت في جسدي رعشة خفيفة تصورته في دور القاضي الذي سينطق بحكمي وتصورتني المذنب الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه ومعارضة الحكم.

نظر إليّ باحتقار وأردف قائلاً "أنا أرى أنك لا تملكين خبرة، أجبت بهزة من رأسي مؤمنة أنه سيقاطعني إن تكلمت مرة أخرى، تحمس لصمتي و بدأ عرضه كممثل يحفظ دوره عن ظهر قلب حتى أن أداءه لم يخلو من حركة يديه الاستعراضية، انتقدني بتفرس و لذة محاولاً أن يثبت شيئا لنفسه على حسابي كناقد غبي يجني شهرته على حساب المؤلف، لكن مشكلته أنه كان ينتقد نصا دون قراءته متأكدا أنه على صواب و ان النص سيء حتما، أدهشني عرضه ووددت التصفيق له بحرارة على إبداعه لكني لم أجد الفواصل و النقاط في كلامه لأفعل هذا!
 

عندما خرجت لم أر العالم مثلما رأيته عند دخولي، كأن عاصفة اجتاحت المكان أثناء تواجدي داخل مؤسستهم، أحسست نفسي دخلت طفلة خفيفة وخرجت عجوزاً مثقلة.

بينما هو يكمل توبيخي على عدم خبرتي أثناء دراستي في الجامعة، و إن مؤسستهم ناجحة وليس لديها الوقت الكافي لتعطيني دروسا في الصحافة التي أجهلها، التقطت عينيّ لافتة معلقة على الحائط كتب عليها "إذا أردت أن تكون صحفيا، فكن إنسانا"، غالبت الضحك في نفسي على سخرية الموقف ولم أفكر في شيء إلا في إسكات هذا "الإنسان جداً.
 

قاطعته برنة صوت ذابلة وكأن مقاطعته هي فرصتي الوحيدة للكلام، أخبرته أنه ذكرني بدرس في الفلسفة حول "البيضة و الدجاجة" أيهما خلقت الأولى؟ هذه النظرية تنطبق على العمل والخبرة، ثم أضفت أن الخبرة أمر نسبي هناك من عمل طوال حياته ولا يزال دون خبرة، وهناك من لم يعمل لكنه خبير بأحلامه وطموحاته على من يملك عشرين سنة في الميدان، وعلقت قائلة إذن اكتب "إذا أردت أن تكون صحفيا يجب أن تكون لديك واسطة بدل أن تكون إنسانا!" وهذه الجملة الأخيرة التي تسببت في طردي من مكتبه إلى الأبد.
 

حملت حقيبة أحلامي التي تحولت إلى خيبات وخرجت كطفل مغلوب اغتيلت كل أحلامه، فجأة تحول عالمي الوردي إلى عالم رمادي وأصبح المستقبل ضبابيا أمامي والحاضر تناثر كالرماد أما الماضي فكان لا يمثل إلا سذاجتي.
 

عندما خرجت لم أر العالم مثلما رأيته عند دخولي، كأن عاصفة اجتاحت المكان أثناء تواجدي داخل مؤسستهم، أحسست نفسي دخلت طفلة خفيفة وخرجت عجوزاً مثقلة كأنه صادر صِبايا في لحظات..
 وبينما أنا عائدة إلى المنزل رأيت انعكاس وجهي في زجاج إحدى السيارات تفاجأت بمظهري فقد ضربت ملامحي بزلزال بمعدل سبعة على سلم درجة الإحباط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.