شعار قسم مدونات

الفكر والعلم بين الأرق والراحة

blog- مطالعة

كل يوم أتصفح شريط حياتي عائدا به لأعوام مضت، متسائلا كيف تغير فكري وسلوكي وإلى أين سأصل نهاية المطاف بعد أن استهلكت كل الوسائل المتوفرة للبحث عن السعادة الكائنة في أنفسنا أو ربما المبعثرة أجزاؤها حولنا تمكنت الوصول إلى بداية الطريق.

فقبل ثلاثة أعوام كنت قد افترشت البقعة الأكثر ظلمة وبعدا في حياتي، كنت كالراكب لأول مرة لشبكة "الميترو"، أسير للحيرة والجهل ثم تعرضت لسلسلة من الصحوات كما في فيلم "Inception"، وفي كل مرة أكتشف بعد وهلة أنني ما زلت مستغرقا في غفلتي فأبدأ بالاستعداد للصحوة المقبلة.

إن المتأمل لحال المجتمعات العربية يدرك أن الفجوة بين الفكروالسلوك الإنساني اليومي تزداد مع مرور الزمن

كانت الصحوة الأولى عندما كنت منشغلا بالصمت بعد أحد الامتحانات الجامعية الخالية من المنطق كالمأكولات المنزوعة الدسم التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكنها تعزز الصحة كما تعزز تلك المواد شهاداتنا الجامعية، فوجئت برجل مسن واقفا أمامي موجها خطابه لأعماقي أكثر من أي جزء حسي في جسدي "لا تحزن فالدنيا لا تستحق ذلك"، لقد كانت الحكمة تتساقط حالها مثل حال قطرات العرق على جبينه، تلك القطرات تزول فور الاغتسال كما تزول رواتب الأفراد فور الوصول إلى السوق، حينئذ بدأت رحلتي بحثا عن إجابة مقتضبة للسؤال الأهم: ما هي السعادة وكيفية الحصول عليها بالرغم من أن الجميع يحاول؟

في سنين دراستي الأخيرة حضرت ندوة لأستاذ حاصل على شهادة الدكتوراة في الهندسة من أحد أرقى جامعات العالم- جامعة ستانفورد- يحكي تجربته في تلك الجامعة، بمرور الوقت شعرت بالملل لعدم حضور أصدقائي، فحسب الطلاب محاضراتهم ذات الساعات الطوال، فقررت اللجوء إلى الجدال فرفعت يدي متسائلا ومنتقدا في الأوان ذاته: لماذا حصيلتك من الأبحاث العلمية المنشورة بالمجلات لا تذكر! فأجابني "يكفيني فخرا رؤيتي لطالبين من طلابي جالسين أمامي ضمن الهيئة التدريسية بعد تخرجهم من أرقى الجامعات"، كان الجواب مبتذلا بنظري ولا يندرج ضمن مفرداتي آنذاك.

شاء القدرأن جمعني بذلك الأستاذ، لا بل المعلم، ثلاثة لقاءات أسهت في تغيير مكتسبات (أو معتقدات كما ظننتها)، فلقد تغيرت طريقة رؤيتي للعلاقة بين الحياة والإيمان، فالكون يسير تحت قانون خالقه حاله مثل حال مكوناته من البشر والشجر والمطر، فعناصره تتبع النظام ذاته في تحديد العلاقات بينها من ترتيب وتداخل واندماج وانفصال وتصادم.

إن تأملنا لتلك العلاقات والقوانين الحاكمة لها تساعدنا في فهم طبيعة المجتمعات البشرية والتفاعلات الناتجة عن تعدد الطبقات المادية واختلاف الطرق الفكرية في نفس النطاق الجغرافي وكذلك التفاعلات بين النطاقات الممتدة باختلاف المنشأ والبيئة المحيطة.

بعد فترة من الزمن علمت أن معلمي أمضى حياته في تفسير القرآن برؤية علمية وطريقة تحليلية مرتكزة على ثوابت الدين الإسلامي، بالإضافة الى جهوده المبذولة لتنشئة جيل يفكر وينتج، فالعلم هو منهج حياة، أما المعرفة الساكنة بين أغلفة الكتب لا تعد علما حتى تلقي بظلالها على القلب والعقل، فهما المسؤولان عن طبيعة الذات الإنسانية، وثم ما تلبث حتى تصبح سنة متبعة لجوارح الجسد وعملا يتجلى بالخلق والحياء.

إن المتعلم هو ذلك الإنسان الباحث عن الحقيقة المستمرفي محاولاته للعثورعليها، فالعلم نقيض للجهل والإنكارالناتجين عن تكبر الذات، أدركت أن العلم يؤتى من ثلاثة روافد، أعظمها كتاب الله المنزل من خالق الكون وثانيها المراجعة والدراسة لحصيلة من سكن الأرض قبلنا وكذلك المشاهدة والتحليل لما يدور حولنا من ظواهر طبيعية وأفعال بشرية.

إن المتأمل لحال المجتمعات العربية يدرك أن الفجوة بين الفكروالسلوك الإنساني اليومي تزداد مع مرور الزمن، إن استمرارنا في إتباع نفس الطرق لحل المشاكل يؤدي إلى النتيجة المتوقعة كل مرة، عدا أن وجود شخص مثقف صاحب فكر في مجتمع عربي هو بمثابة سبب جالب للعداء وتهديد مستمر لراحته وربما لحياته في بعض الأحيان.

إن حياتنا هي سلسلة من الأحداث الناتجة عن قراراتنا، فربما كانت السعادة مزيجا لنكهتين متضادتين متلازمتين.

كذلك يدرك المتأمل الخلل الكامن في الأنظمة السياسية والاقتصادية المتبعة البعيدة عن أي منطق علمي أو تجربة إنسانية ناجحة سوى أنها مرتكزة على تحقيق المصالح الشخصية وجلب المكاسب لفئة محدودة من المجتمع إن أردنا أن نعدها من المجتمع أساسا!، فالمجتمع هو مجموعة من البشر تتقاسم المصير ذاته.

أما مجتمعاتنا الوهمية فتضم مجتمعين إثنين، مجتمع يترقب بخوف الهلاك والفقر والآخر يعيش برغد منتظرا مصيرا مختلفا تماما، وهنا تتجلى الحكمة الإلهية أن جعلنا الله نتشارك مصيرا واحدا، هو الموت، حتى نشعر ولو لوهلة أننا مجتمع بشري!.

إن حياتنا هي سلسلة من الأحداث الناتجة عن قراراتنا، فربما كانت السعادة مزيجا لنكهتين متضادتين متلازمتين، الأولى هي السكينة الناتجة عن ارتقاء الفكر وتهذيب الخلق وتعمق الإيمان في القلب، أما الثانية فهي الأرق وانشغال العقل بوصف الحال وفهم التناقضات.

واتباعا (للبروتوكول) فإنني أختم بتوجيه الشكر لصديقي عندما قال "أن التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.