شعار قسم مدونات

عن التاريخ الذى لن يعيد نفسه

blogs - حروب صليبية
هل يعيد التاريخ نفسه حقاً؟ ربما كانت الإجابة عن هذا السؤال واضحة قبل مائتى عام، أما اليوم فلا أحسب أن أحدا يملك الجواب.
عرضت قناة الجزيرة الوثائقية منذ فترة قصيرة فيلماً وثاقياً شيقاً عن الحروب الصليبية. وطفق المعلقون والمشاهدون يرسمون التشابهات بين هذا التاريخ البعيد وبين واقعنا المعاصر. ولا شك أن التاريخ ينضح عبراً ودروساً ولكن رواياته أيضاً محفوفة بالمخاطر والمنزلقات التي يجب الحذر منها.
يتصور بعض السذج أنهم يستطيعون بناء استراتيجيات وخطط عمل مستوحاة من قصص نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبى ويبنون عليها أحلاما وقصورا في الهواء.

هذه العقلية وأمثالها هي أحد أهم مخاطر تعلم التاريخ دون فهم الواقع، فقد أغفل هؤلاء الفارق الكبير بين ما حُكي لهم من أخبار نور الدين وصلاح الدين وبين واقعهم الذي يختلف كلية عن هذا التاريخ البعيد.
تعودنا دائماً أن نلاحظ التشابه بين التاريخ والواقع ونكرر دائماً مقولة "التاريخ يعيد نفسه". من السهل إثبات هذا بالطبع، فلا شك أن للبشر طبائع متشابهة ودوافع متقاربة مهما تغير الزمان والمكان. بيد أن ما غاب عن كثير منا هو أن عالمنا الذي نعيش فيه قد تغير تغيراً هائلا في مدة قصيرة عن سابقه من الأزمان حتى أصبح فهم هذا الواقع لا يتحقق بالوجه الأكمل والصورة الأشمل إلا بمعرفة الفارق الكبير بينه وبين التاريخ.

هذا الفارق الكبير بين التاريخ والواقع في كل مجالات الحياة الإنسانية تقريباً هو ما يجب علينا تأمله والاستفادة منه في تجديد وسائلنا وطرق عملنا. إن فهم هذا الفارق الكبير بشكل سليم يبني لدينا وعياً ضرورياً بالتحديات الهائلة التي نواجهها كما يفتح لنا آفاق الفرص العظيمة التي تنتظر اقتناصها.

عندما فتح صلاح الدين القدس تطلب الأمر عدة شهور ليصل الخبر إلى أوروبا ثم عدة شهور أخرى في التجهيز ثم شهوراً أخرى في الطريق الذي يهلك فيه ثلث جيشهم.

إن كل ما كان متوفراً للإنسان في العصور القديمة من الطاقة كان منحصراً في طاقة الدواب والرياح والماء فى بعض الأحيان. فمثلاً، لم يكن أحد من الناس يحلم بالسير على الأرض بسرعة أكبر من سرعة الدابة التي تنوء بحمل أثقاله. أما في البحر، فقد كان الناس محكومون بطاقة الرياح واتجاهها واتجاه مجرى الأنهار وسرعتها.

أما بعد اكتشاف مصادر جديدة للطاقة مثل الوقود الحفري من الفحم والبترول والطاقة النووية، فقد باتت للإنسان قدرات جبارة لم تكن متاحة له من قبل. فقديماً كان معظم الناس يدفنون على بعد أمتار قليلة من المكان الذي يولدون فيه، ودون أن تبتعد حياتهم كثيراً عن هذين الموضعين. أما اليوم فالواحد منا يمكنه أن يقطع نصف قطر الأرض ذهاباً وإياباً في ساعات معدودات.
أما فى مجال الاتصالات، فقد كانت تعتمد على نفس القدرات المحدودة للبشر في التنقل ولم يكن هناك وسائل اتصال سريعة مثل التليجراف والراديو والإنترنت.
أدى هذا إلى بطء شديد في انتشار الأخبار والمعلومات فقد كان يحتاج نقل خبر ما إلى من يأخذه ويوصله بنفسه إلى من يريد معرفته مستخدماً ما يستطيع من دواب أو سفن بدائية فيصل بعد وقوع الحدث بأسابيع وربما شهور (هذا إن وصل أصلا). قارن هذا التاريخ بالواقع الذي بات يمكننا فيه رؤية ما يحدث في أقاصي الأرض عبر البث الحي في نفس لحظة وقوع الحدث.

أما بالنسبة للحرب والعسكر ففي الماضي كان الفارق بين الأمم والشعوب في القدرات العسكرية يكاد يكون معدوماً. فقد كانت كل الجيوش تمتلك نفس أنواع الأسلحة والمعدات التي لم يكن بينها فارق كبير في التكنولوجيا أو التقنية. فقد كانت جميع الجيوش تعتمد على السيف والرمح والقوس والنشاب وكان أقصى ما يمكن الوصول إليه من التطور العسكري يتمثل في ابتكار أنواع من أدوات الحصار مثل المنجنيق أو أبراج الجنود وغيرها.
كذلك افتقرت معظم الجيوش إلى الشكل النظامي المعروف حاليا. وافتقرت أيضا إلى التدريب والانضباط المستمر، فقد كان الملك أو الأمير يحشد ما يستطيع حشده من الأمراء والنبلاء الذين ينضمون إلى جيشه بما لديهم من فرسان وجنود.

عند استخلاص دروس التاريخ علينا الحذر من الوقوع في فخ المقارنة السطحية بينه وبين الواقع، خاصة إذا كنا ننوي أن نبني على هذه المقارنة استراتيجية للصراع مع نفس القوى القديمة التي عادت.

ومنذ مطلع القرن السابع عشر الميلادي، اكتسبت الجيوش طابعاً أكثر تطوراً على الصعيدين التكنولوجي والتنظيمي. فعلى الصعيد التكنولوجي انتشرت البنادق والأسلحة النارية الأخرى بكافة أنواعها. كما تطورت المدافع والذخائر إلى حد كبير حتى ابتكر الإنسان الدبابات والطائرات والأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل. أما على الصعيد التنظيمى فقد أصبحت الجيوش محترفة وأصبحت العسكرية مهنة يمتهنها كثير من الضباط والجنود الذين يقضون حياتهم في التدريب والتعلم وباتت لهم مؤسساتهم ومجتمعاتهم الخاصة.

وأخيراً يممكننا تصور هذا الفارق الكبير بين التاريخ والواقع من خلال تخيل الوضع الذي قابله نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبى في مواجهة الصليبيين. فلم يكن على هذين القائدين القلق بشأن سرعة وسائل المواصلات أو الفارق التكنولوجي بين جيوشهم وجيوش الصليبين، فكلا الجيشين كان يمتلك نفس أنواع الأسلحة ونفس التنظيم العسكر. وعندما فتح صلاح الدين القدس تطلب الأمر عدة شهور ليصل الخبر إلى أوروبا ثم عدة شهور أخرى في التجهيز ثم شهوراً أخرى في الطريق الذي يهلك فيه ثلث جيشهم.

وأخيراً وبعد هذه الرحلة الشاقة قضوا ثلاث سنوات كاملة فى حصار مدينة عكا وحدها. أما اليوم وخلال وضعنا لاستراتيجية الصراع مع القوى العظمى، فعلينا أن نتوقع وصولهم إلينا بحدهم وحديدهم في ساعات معدودات من لحظة اتخاذهم القرار. وكذلك علينا الأخذ في الحسبان التفوق التكنولوجي والعسكري الهائل الذي تتمتع به هذه القوى العظمى والذى تخلفنا عنهم فيه قروناً. وبغير هذا الوعي بحدود التاريخ وتحديات الواقع سوف نقع حتماً فريسة السذاجة البلهاء التي توهمنا بأننا نستطيع استلهام استراتيجيات الصراع من قصص نور الدين وصلاح الدين.

كان هذا استعراضا سريعا للهوة السحيقة بين التاريخ والواقع في مجالين فقط من مجالات الحياة الإنسانية ويمكننا تكرار هذه المقارنة في كافة المجالات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.. إلخ. وعند استخلاص دروس التاريخ علينا الحذر من الوقوع في فخ المقارنة السطحية بينه وبين الواقع، خاصة إذا كنا ننوي أن نبني على هذه المقارنة استراتيجية للصراع مع نفس القوى القديمة التي عادت، ولكن في حُلة جديدة. فالتاريخ كنز ثمين فقط لمن أحسن استخلاص دروسه وتقدير حدود تطبيقها.
والحمد لله رب العالمين

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.