شعار قسم مدونات

الحب العربي المنكوب

blogs - ورد وبيانو
منذ فجر التاريخ كانت أشهر قصص الحب في التراث العربي مصحوبة بصوت السيوف، ولون الدم، ورائحة البارود، وإن كانت ظروف الحرب كفيلة بجعل أية قصة حب حكاية عالمية، ومعجزة خالدة، فإنها لا تعدو كونها تراثاً انتهى مع انتهاء زمن الحرب في العالم الحديث، الذي يؤرخ بانتهاء الحرب العالمية الثانية. إلا أنها في التاريخ العربي، تخطت ذلك وامتدت لما بعده، لأن زمن الحروب في العالم العربي لم يؤرَخ له عصرُ انتهاء! مذ نشأنا ونحن نسمع قصة عنترة بن شداد الذي توطّد حبه لعبلة تحت ظلال السيوف، ونحفظ عن ظهر قلب أبياته الشهيرة:

ولقد ذكرتكِ والرّماح نواهلٌ .. مني وبِيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السُيوفِ لأنها .. لمعَتْ كفاغرِ ثغرِكِ المُتبسّمِ

وطالما سمعنا من أجدادنا قصص الحب في التراث الشعبي أشهرها عزيزة ويونس بين ساحة المعركة وجدران المعتقل، وغيرها من قصص ثبتت في التاريخ، أو اشتهرت في الأدب والدراما، ثم جرّ الواقع العربي -الذي لم يخلُ من الحروب عصراً من العصور- مزيداً من القصص التي لم تعد تراثاً، بل كانت أحداثاً حصلت مع أجدادنا، وذكرياتٍ عاشها آباؤنا، حتى صارت اليوم رواياتٍ لأقراننا، وتفاصيلَ طبعت حياة أبنائنا، تحت وطأة الحرب التي لم تتوقف حتى اليوم!

إن الفوضى التي تصنعها الحروب لا يمكن أن تنتظم مجدداً أبداً، لأنها تجعل حتى الحب منكوباً ومكسوراً وجريحاً وغير قادر على ترميم نفسه، وهو الذي كان يعول عليه في ترميم البقية الباقية حوله.

ولعل فكرة اقتران الحب بالحب ليست حديثة، يقول الفيلسوف والأديب الشيوعي آلان باديو: هناك رابط حميمي وعميق بين الحبّ والموت، ومن قبله الشيخ ابن عربي فيلسوف الصوفية يقول: الحبّ موتٌ صغير، وهما رأيان يحملان وجهين لارتباط الحب والموت، فهو إما عميق وقوي لأنه آخر ما يمكن التشبث به في مواجهة الموت، أو قاسٍ وعنيف يجعل أصحابه البؤساء في حالة موت وهم على قيد الحياة.

عبر أحداثنا المأساوية من نكبة فلسطين -حيث أحب والد جدتي امرأة لم يستطع خطبتها لأنه خرج مع الثوار، وماتت هي في الحرب فأسمى جدتي أولى بناته حين تزوج باسم حبيبته- إلى احتلال العراق -حيث أبصر جندي أمريكي من عماه ليرى الحقيقة فأسلم وأحب عراقية وتزوجها وأقام ببغداد- وصولاً لمأساة سوريا -حيث حمل معذَّبوها قصص حبهم معهم فعاشت في المنفى أو دُفنت تحت الركام- عبر أحداثنا تلك تغير مفهوم الحب، وتحول من ترف جميل يتغنى به الشعراء ويُتخِم الكتب، ويُزين المجالس، إلى شاهد على المعاناة، ودليل على البقاء في وجه الاندثار، ومادة للتحسر والبكاء.

جاء في "زهر الآداب" للحصري: أن شيخاً بخراسان كان يعلم طلابه الحكمة، فكان يسألهم بين الحين والحين: "أفيكم عاشق؟ فإذا قالوا :لا، قال لهم: اعشقوا، فإن العشق يُطلِق العَيِيّ (الجاهل)، ويفتح جِبِلَّة البليد، ويُسخي البخيل، ويبعث على النظافة، وحُسن الهيئة، ويدعو إلى الحركة والذكاء وشرف الهمة، وإياكم والحرام!"، ولو عاش شيخ خراسان هذا اليوم لقال:" اعشقوا، فإن العشق يُزهر في الحرب، ويُثري الصحافة، ويبرهن على الإنسانية، ويُبكي العالمَ اللطيف، وإياكم أن تظنوا أنه يحركه لإنقاذكم!" فهو عالم غارق في الأنانية وترف الموروث الذي يتغنى بقول الآلهة الأسطورية أفروديت: "إن الفوضى التي تصنعها الحرب في العالم يمكن أن يصنعها الحب إذا ظل قابعاً في الوحدة والفردية العاجزة عن خلق التوازن في نظام الوجود".

إن الفوضى التي تصنعها الحروب لا يمكن أن تنتظم مجدداً أبداً، لأنها تجعل حتى الحب منكوباً ومكسوراً وجريحاً وغير قادر على ترميم نفسه، وهو الذي كان يعول عليه في ترميم البقية الباقية حوله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.