محاولة مني أن أصب كل تركيزي في الأسطر السردية التي أمامي كذلك محفزة عيناي على أن تكفان النظر للراكبين والاكتفاء بتخيل لبنات القصة. لكن لم تنجح مهمتي فثار انتباهي رجلان عجوزان يصعدان الحافلة بثياب متسخة – تظهر كثيرا مما تخفي- تدل على عملهما الشاق.
جلس بقربي أحدهما، فبرزت من محياه ابتسامة تسللت.. فباءت أن تظهر لي أسنانه غير المتراصة، مصحوبة بكلمة السلام عليكم، ما أجمل الإسلام! الذي يحثنا على قول السلام، وما أجمل السلام! سلامك يا عمي اختلج كل مسامي، فداعبني… جعل كل مستقبلاتي الصوتية تتهافت وتتسارع لترد السلام. سلام وألف سلام عليكم أيها البسطاء أينما وجدتم!
ماذا عن الذين يعيشون وسط حروب طوال السنة، بل طوال السنين لكنهم يظلون صامدين، يقفون وسط دخان القذائف ويقولون الحمد لله… نعم! الحمد لله لأنكم هنا.. فأنتم سر الوجود! |
رجل مكافح بسيط يسعى كل يوم لجمع قوت يومه، امرأة بسيطة تجاهد لتوفير حاجيات أولادها وزوجها، شاب بسيط يسعى لتحقيق حلمه وحلم أحبته، شابة بسيطة تتحدى الظروف وتشق مسارها تفوقا لكسر زجاج المعهود والسلفي. بسطاء في كل ما هو مادي، لكن عمالقة في كل ما هو روحي نفسي وعقلي.
البسطاء -الذين أنتمي إليهم– هم من يزرعون في كياني روح الأمل والجهاد والمثابرة لأزيد تجبرا مع كل عقبات الحياة. كان رجلا عجوزا لا يرتدي حذاء أسود لامعا كذاك الذي انبهر به جيري عند سفره للمدينة هربا من توم، ولا ساعة من سويسرا، اكتفى برائحة مسحوق التصبين كعطر لملابسه… كان واضحا عليه العياء حتى النخاع، فلون وجهه كان مسمرا مقارنة بلون يديه. لكنه كان بشوشا!
همه الوحيد أن يمر يومه بسلام، يريد السلام ويحس السلام مع كل العالم. يتمذق القناعة في تمعنو صمت وحكمة.
القناعة هي أسمى حالات النضج التي يمكن أن يصل لها الإانسان فأن تكتفي بما تملك؛ شعور جلي ونبيل.. لا أقصد بقولي الكف والتوقف عن الحلم والطموح لكني أوكد على عدم القنط والضمور من رحمة الله سبحانه وتعالى من جهة والرضا بالقضاء والقدر من جهة ثانية.
نعم! الحمد لله لأنكم هنا.. فأنتم سر الوجود!
في زمن اللا إنسانية، الزبونية، المصالح الشخصية، زمن أنا وما بعدي الطوفان. في هذا الزمن يا سادة، أن تعيش البساطة وتستمتع بها. أن ترضى بها، أن تصل إلى الاكتفاء الروحي المعنوي والمادي وأنت تملك دريهمات قليلة في جيبك، لن تكفيك لشراء تلك الشكولاتة اللذيذة في الإشهار!
فنٌّ حبذا لو يتقنه الجميع.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.