شعار قسم مدونات

كيف أصبحنا أغبياء؟

blogs - human
ماذا يعني أن يكون المرء ذكيا أو غبيا؟ وماهي ضريبة كل منهما؟ أيوجد فروق بين الاثنين؟ أيمكن للمرء أن يكون غبيا فيصبح ذكيا أم العكس؟ إن وضعنا الذكاء والغباء في حلبة واحدة ليتصارعا من سيكون المنتصر؟ وإن أردنا أن نَصِف أنفسنا فماذا سنقول؟ أنا ذكي مجاملة؟ أم أنا غبي صدقا؟ هذا العالم بأكمله هل اتخذ الغباء أم الذكاء أسلوبا ولونا؟ وهنا يتكرر السؤال مع التشديد على أهميته وخطوط حمراء عريضة تفترش أسفل أحرفه، ماهو الذكاء؟ وماهو الغباء؟ 
أنطوان بطل رواية "كيف أصبحت غبيا ؟"  للكاتب مارتن باج، شاب خاض صراع الغباء والذكاء، فهو شاب لم يُعرف بأي صفة غير الذكاء والفطنة والنباهة منذ نعومة أظافره، فلا يوجد علم في الوجود إلا ولخلايا دماغه منها نصيب، وإن وُجد أمر ما لا علم له به فهو سيشغل باله حتى يجد الإجابات والتفسيرات المنطقية، من أشد الأمور جدية كعمالة الأطفال والحروب إلى أشدها بساطة كسياسة تصنيع المنتجات الاستهلاكية، فهو بحاجة لإيجاد تفسير منطقي للوجود بأكمله، يُمكن القول إنه مُصاب بمرض الذكاء العضال، كما وصفه أنطوان بنفسه.

ذكاء أنطوان أصابه بالاكتئاب والتعاسة، فرغم حَيوية خلايا دِماغه إلا أن حياته تفتقر الحيوية بشتى أشكالها، بحثه الدائم عن الإجابات والتفسيرات جعل من حياته جحيما، أي أن حياته كانت هي الضريبة التي دفعها مقابل ذكائه، لذلك قرر أنطوان الشاب الذكي أن يُصبح غبيا ليتمكن من العيش بعد محاولات شتى جميعها باءت بالفشل من محاولته لإدمان الكحول مرورا بالانتحار إلى رغبته باستئصال أجزاء من دماغه، جميعها لم يُعن أنطوان، مما قاده إلى أن يتخذ القرار "الذكي" بأن يصبح غبيا كبقية البشر ليتذوق حلو العيش، تمكن أنطوان أن يصبح سعيدا لدرجة ما بالاستعانة بحبوب مضادة للاكتئاب "الحبوب الحمراء" جعلته يتخلى عن مبادئه، أصبح عبدا لشهواته البشرية، لم يعد يبالي بما يجري حول العالم من حروب ومجازر ومجاعات ليتمكن من الابتسامة من منظور "أنا مستاء لما يجري في العالم، لكن ماذا بوسعي أن أفعل أنا أنطوان؟".

أنطوان الشاب الذكي أعاده الغباء الذي اختاره إلى رشده بعد أن رأى شبحا ذكره بمقولة نيتشه: الذكاء حصان جامح، يجب أن نجيد ترويضه وإطعامه الشوفان المناسب وتنظيفه وأحيانا استخدام المهماز.

على مدى تجولي في صفحات الرواية كنت أشعر بنبرة الكاتب الساخرة بين الكلمات رغم جِدية المحتوى، فأي حال يؤدي بإنسان أن يختار الغباء على الذكاء حتى يتمكن من العيش، ومنذ متى أصبح الذكاء مرضا ونقمة؟ من منا لا يتمنى أن يُصبح ذكيا، فالذكاء كالمفتاح الذهبي الذي يفتح أبوابا كثيرة، إلى أن توصلت لحقيقة أن جميعنا أغبياء نتظاهر بالذكاء لنتمكن من العيش، فبشكل يومي نُتابع الأخبار المحلية والعالمية كفرض إنساني علينا لا مفر منه، لكن بمجرد انتهاء النشرة الإخبارية تختفي لمحة الحزن عن أوجهنا ونبدأ بالبحث عما يَمسح ما رأيناه للتو من بشاعة من ذاكرتنا، وكأنه رفع للعتب، نهتم بتوافه الأمور ونجعل من السطحية أسلوبا للحياة، ننام ونصحو من أجل العمل أو الدراسة، غاية عارية مُجردة من أي نية سامية، غاية للاستمرار بالعيش فقط لا غير. العملات النقدية أصبحت لغتنا الوحيدة وهمنا الوحيد وغايتنا الوحيدة كما حدث لأنطوان الذكي الغبي.

كما حدث لأنطوان الذي أصبحت الماديات والمظاهر عاملا مؤثرا في آرائه، نحن جميعا بشكل أو بآخر سواء إن اعترفنا بهذا الذنب أم لا، تؤثر فينا المظاهر عند اتخاذ القرارات وبناء العلاقات مع البشر، لا داعي لأن يكون الأمر ظاهرا، إلا أنه موجود للأسف، نمط حياتنا المتقلب والغزو الفكري الذي نتعرض له مع كل إعلان ومسلسل وفيلم نفقد القليل من تقديرنا لجوهر الأمور مصوبين أنظارنا نحو أغلفتها وعناوينها فقط.

كلما اقتربت للصفحة الأخير من الرواية كان يزداد يقيني أن البشرية بأكملها تتناول تلك الحبوب الحمراء كجزء إلزامي من حميتنا الفكرية والغذائية، لنصبح أغبياء، أجسادا بلا أرواح تحركها شهواتها، تُعادي بعضها البعض من فوق الطاولة وأسفلها، تُحركنا الشكليات والمظاهر كالدمى، أصبحت المحفظة أكثر أهمية مما تحفظه الجمجمة وتحميه، عالم بلا مبادئ أو أخلاقيات تسوده الحروب والمجاعات لأننا أغبياء، ظلمنا من لم يملكوا الفرصة ليختاروا بين الذكاء والغباء.

أذهلني مقدار السخرية والجدية العظيمين في صفحات الرواية، سرد ممتع، يُضحكك على ما هو مؤلم، لن تنفك من رؤية المجتمع الذي يحيط بك في صفحات هذه الرواية، مشاعر الأسى على حال البشرية سيرافق ابتسامتك على كوميديا الرواية غير المباشرة، رواية تستحق أن تُقرأ.

أنطوان الشاب الذكي أعاده الغباء الذي اختاره إلى رشده بعد أن رأى شبحا ذكره بمقولة نيتشه "الذكاء حصان جامح، يجب أن نجيد ترويضه وإطعامه الشوفان المناسب وتنظيفه وأحيانا استخدام المهماز"، وكأن ما خاضه أنطوان من غباء وجموح كان مجرد نزوة أو كابوس أو حتى صفعة تعيده إلى وعيه الذي فقده، أي انظر يا أنطوان إلى الأفضلية التي تمتلكها، نعم قد تعلو هذه الصفة ظهرك وتُجهدك وتجمع الغيوم السوداء فوق رأسك، إلا أنها لن تكون بمدى سوء أن تكون غبيا، صفة لا يمكن ترويضها بعكس الذكاء، أن تكون مريضا بالذكاء أفضل من أن تكون غبيا.

تمكن أنطوان من انتشال نفسه من وحل الغباء وأن يكون هو الاستثناء، هل سنحقق ذلك الانتصار على الغباء أم سنكتفي بشرف المحاولة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.