شعار قسم مدونات

دَيْرُ الزَّوْرِ.. على ضِفتَي الموت

دير الزور

صغيراً كنتُ حينها، جالساً أستمعُ لخطبةِ الجمعةِ في يومٍ صيفيٍ حار من أيامِ مدينتي الحزينة دير الزَور، يستهلُ الخطيب كلامه بقوله: "من على منبرِ رسولِ الله، ومن هذه المدينةِ المنسيّة، أحدثكم اليوم". يتوقفُ أمام عيني مشهد الخطبة وكأني لم أعد أسمعُ شيئاً آخر، وأبدأ أفكرُ لماذا هذه المدينة منسيّة!
 

ديرُ الزَور مدينةٌ من الشرقِ السوري على أكتافِ الفراتِ العظيمِ تقع، أهلها طيبون كرماء، امتزجت في دمائِهم عراقةُ الماضي وأنفةُ البادية، تغشاهم مسحةٌ من حب الدين وتعظيمه، خبرتهم الصحراءُ وخبروها، فتعايشوا معها منذ غابر الأيام. حبا الله تعالى هذه المدينة بخيراتٍ عظام اختصت بها من نفطٍ وغازٍ وموارد مائية ضخمة، عمل نظامُ البعث على مدارِ سنين حكمه على نهبها لتكونَ عصب اقتصاده الأمني والعسكري، كما عمد إلى تجهيلِ هذه المنطقة وتفقيرها لتبقى تَدُر خيراتها له ولأتباعه، ولكي لا يطالب أهلها بشيءٍ من العدالة الاجتماعية أو أدنى إنصافٍ لهم.
 

خصائص ذاتيّة استثنائية لمدينة دير الزور لم يعيها قادةُ الثورةِ السورية في حينها، ليوظفوها لخدمةِ ثورتهم، فقد أغرتهم أهداف مرحلية محدودة عن هدفٍ استراتيجي جوهري.

ومع هبوبِ نسائمِ الربيع العربي على بلادِ الشام تنشّقت هذه المنطقة عبقَ الحريةِ وانتفضت برمتها ضد نظام البعث، محطمةً بذلك أغلالَ العبودية، متلمسةً طريقَ الحرية والخلاص، مشاركةً باقي المدن السورية الثائرة بصناعة عصرٍ جديد يسوده العدلُ والمساواة وافرادُ العبودية لله وحده دونما رقيبٍ أو حسيب.
 

ولأن هذه المدينة تبعدُ عن مركزِ ثقل النظام السياسي والعسكري في دمشقَ والساحل، فضلاً عن نسيجها المجتمعي المترابط الذي يخلو من أقلياتٍ طائفية، وما تمتعَ به أهلها من صلابةٍ في التعامل خبرها نظامُ الوريث القاصر كما خبرها أبوه من قبل، فما كانت تمضي إلا شهورٌ قلائل حتى أصبحت هذه المدينة معقلاً من معاقلِ الثورة السورية، وخرجت بشكلٍ شبهِ كامل عن سيطرة الجيش والأمن الأسدي، وشكّلت مصدرَ قلق كبير لنظام البعث تشهد عليه المظاهرات المليونية التي نظمها رجالُ الثورة وشارك بها رجالها ونساؤها، كبارها وصغارها.
 

خصائص ذاتيّة استثنائية لهذه المنطقة لم يعيها قادةُ الثورةِ السورية في حينها، ليوظفوها لخدمةِ ثورتهم، فقد أغرتهم أهداف مرحلية محدودة عن هدفٍ استراتيجي جوهري، كان كفيلاً بأن يعطي الثورة السورية زخماً حيوياً، ويشلّ النظام المالي والاقتصادي لحلف الأسد، ويحرمه من خيراتِ هذه الأرض وطاقاتها.
 

فهذه المنطقة كانت المهيّئة جيوسياسياً وعسكرياً واقتصادياً وديموغرافياً لتصبح عاصمة سورية الحرة، ومركزاً لإدارة الثورة ومقارعة النظام مهما طالت أمد الحرب، ولتحولت مأوًى للمُهَجّرين من باقي المدن السورية، ولو أنها استغلت أحسن استغلال لما تعثّرت كبرى العمليات العسكرية ضد النظام انتظار دعمٍ ماليٍ محدود، ولما بلغَ تشرذم أهل هذا البلد بأصقاعِ الأرض مبلغه اليوم.
 

وبنظرة متفحّصة نجد أنّ هذه المدينة غنيّة بثرواتٍ بتروليةٍ تكفي لتمويل الثورة السورية وترفع عن أهلها مشقة انتظار الدعم، وشروط الداعم فضلاً عن أنها ستمدهم بوقودِ الحرب وعصب حركته الأساس. كما أنّها تتميّز باستقلالها المائي نظرًا لموقعها على واحدٍ من أعظمِ أنهار الدنيا وأعذبها. ثمّ بعدها عن مراكز نفوذ النظام في دمشق والساحل. بينما تشكل بادية الشام حاجزًا طبيعيًّا يكشف أي قوات برية متحركة من مسافاتٍ بعيدة، فلا يبقى للنظام إلّا القوّة الجويّة التي لا تحسم حرباً على الاطلاق.
 

أضف إلى ذلك أنّ أهالي هذه المنطقة هم من شبابِ السنة، جنودُ هذه الحرب وحملة رايتها. وأمر آخر لا يقلّ أهميّة عمّا سبق، فهي متصلة بمثلث الأنبار السني الذي يمثل لها عمقًا استرتيجيًّا بالغ الأهمية.
 

الآن لا أخاف على مدينتي "دير الزور" النسيانَ الأول، وإنّما أخاف أن ينساها أهلها الطيّبون الذين توزّعوا في أصقاع المعمورة بعد أن تربعت مدينتهم الساحرة على ضفتي الموت.

كلّ هذا يرسم لنا صورة واضحة للبعد الاستراتيجي لهذه المنطقة، كما يفسّر مدى حرص "تنظيم الدولة" على السيطرة عليها، وإخضاعها ولو بارتكاب أبشعِ المجازر بحقّ سكانها. ولعلّ هذا ما يفسّر أيضًا رغبة النظام في إبقاء موطئ قدمٍ له فيها على الرّغم من الخسائر الفادحة التي تتكبّدها قواته، والمرتزقة الذين جاء بهم من أصقاع الأرض على مدى سنوات الحرب.
 

ولأنه كما يصفُ أبو ريشة الحسنُ الذي يجر على الحسناء شراً، فقد نال أهل هذه المدينة ما نالوه من أصنافِ العذابِ والقهرِ والجوعِ والحصار، فتارةً تفتك بهم قواتُ الأسد وتارةً تنهشُ بهم كلابُ البغداديّ، وما بينهما من قصفٍ جنونيّ.. روسيّ وايرانيّ وأسديّ وأمريكيّ، ما مَيزَ يوماً بين مَدني وغيره، وما ترتب عنه من مجازرَ لا يتسعُ المكان لإحصائها الآن تبدأ بالرصافةِ والجورةِ ولا تنتهي بتدمير مشفىً للأطفالِ في البوكمال، والعالمُ من حولنا صامت يتفرج، فالضحايا لا وزنَ لهم ولا قيمة مادامت الخيراتُ مسلوبة، والأموالُ تجبى لمن يتغلب في الليل والنهار.
 

وكأنّ مواعيد الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "فيما أخرجه الإمام مسلم" بدأت بالتجلي أمامَ أعيننا: "لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب. يقتتل الناس عليه. فيقتل من كل مائة، تسعة وتسعون. ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو".

وعودٌ على بدء، كبرتُ أنا، ومازالَ الفراتُ يجري عذبًا رقراقًا، وما زالت مدينتي الحزينة دَيْرُ الزَّوْرِ منسيّة، لكنني الآن لا أخاف عليها النسيانَ الأول، وإنّما أخاف أن ينساها أهلها الطيّبون الذين توزّعوا في أصقاع المعمورة بعد أن تربعت مدينتهم الساحرة على ضفتي الموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.