شعار قسم مدونات

لا للحنين إلى مدافئ الفحم الحجري

blogs - مدفأة

ذكرت وسائل الإعلام التركية أن مديرية الأرصاد الجوية تحذر من حدوث انخفاض كبير في درجات الحرارة وقدوم موجة ثلوج قوية على المدن التركية في الأيام المقبلة، وتؤكد على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لتفادي الحوادث الأليمة. مثل هذه الأخبار نسمعها كثيرا هذه الأيام.

لم نشهد في تركيا منذ سنين هطول الثلج في الشتاء بهذه الكمية الكبيرة. وفرح الأطفال بــ"النعمة البيضاء"، لأنها تعني لهم الإجازة ومتعة عمل رجل الثلج مع أفراد العائلة أو الأصدقاء، والتراشق بكرات الثلج، والتزلج على الثلج. كما فرحنا بها، نحن الكبار، لأنها بركة ينتظرها المزارعون وتمتلئ بها السدود وتعني أننا لن نعيش بإذن الله أزمة مياه في الصيف القادم.

هذا، بالإضافة إلى الروعة التي تكتسبها المدن والقرى والجبال والمروج والحدائق العامة، وتغطي الثلوج البيضاء النقية الحجر والشجر وكل شيء على وجه الأرض كحلل العرائس المزيَّنة المتلألئة، لتستر كثيرا من العيوب، وتزيد جمال المناظر الخلابة جمالا.

مدافئ الفحم الحجري، بالإضافة إلى صعوبة التحضير والتنظيف، تشكل خطرا على حياة الناس إن لم يتم استخدامها بشكل صحيح.

ولكن كل هذه النعم والفرحة تقابلها مشاكل ومتاعب تأتي في الشتاء ومع هطول كمية كبيرة من الثلوج، مثل الحوادث المرورية، وصعوبة التنقل والسفر، وإلغاء الرحلات الجوية، وإغلاق الطرق المؤدية للقرى، بالإضافة إلى البرد القارس الذي يفرض على الجميع أن يبحث عن وسائل التدفئة ليحمي منه نفسه وأولاده.

كانت في السابق، أي قبل انتشار استخدام الغاز الطبيعي والتدفئة المركزية، مدافئ الفحم الحجري، أو "صوبا" باللغة التركية، أكثر وسيلة تستخدم للتدفئة في موسم الشتاء والأجواء الباردة. وكان أفراد العائلة والأقرباء والأصدقاء يجتمعون حول المدفأة الساخنة في البيوت والمقاهي للسمر في الليالي الطويلة، ويستمع الأطفال إلى القصص التي يحكيها الأجداد والجدات. كما أن المدافئ كانت تؤدي وظائف أخرى بالإضافة إلى التدفئة، مثل استخدامها في صنع الفطائر والشاي وتنشيف الملابس بعد غسلها وشوي الكستناء. وهناك خواطر وذكريات كثيرة عن تلك الأيام الخوالي.

الشباب الذين يعيشون اليوم في العمائر بالمدن الكبيرة، نجد بعضهم يحنون إلى الأوقات الجميلة التي قضوها مع آبائهم وأجدادهم حول مدافئ الفحم الحجري في طفولتهم. ويتحدثون عن شوقهم لتلك الأيام الجميلة، ويحكون ذكرياتهم مع الكستناء المشوي على المدفأة وخبز التنور وما إلى ذلك، إلا أنهم يتجاهلون نقطة هامة، وهي أن معظمهم لم يتحملوا شيئا من متاعب تحضير المدافئ وتنظيفها، بل كانوا يتمتعون بالأكل والشرب والسمر، ويلعبون حول المدافئ الساخنة، فيما كان آباؤهم وأمهاتهم يقومون بكل تلك المهام.

هؤلاء الشباب يعيشون اليوم في شقق تتم تدفئتها بالغاز الطبيعي، ولا يحتاجون إلى الفحم الحجري ولا الحطب، ولا يقومون كل يوم بتحضير المدافئ وتنظيفها، وما عليهم إلا الضغط على زر التشغيل لتدفئة جميع أنحاء البيت. ولو تم تخييرهم بين العيش في بيوت تتم تدفئتها بمدافئ الفحم الحجري على يقوموا هم أنفسهم بتحضير تلك المدافئ وتنظيفها وبين البقاء في شققهم الدافئة لاختاروا الثاني.

مدافئ الفحم الحجري، بالإضافة إلى صعوبة التحضير والتنظيف، تشكل خطرا على حياة الناس إن لم يتم استخدامها بشكل صحيح. لا أقصد الحروق والحرائق التي تتسبب فيها، بل هناك خطر أكبر من ذلك، وهو الغاز السام الذي يتسرب منها ويقتل كل من يستنشقه لمدة. وكم عائلة دمرتها مدافئ الفحم الحجري، لأنهم ناموا بجوارها، ولم يستيقظوا، وعثر على جثثهم صباحا وقد فارقوا الحياة بسبب ذاك القاتل الصامت المسمى أول أكسيد الكربون.

قضيت طفولتي في بيت من الطين مع جدي وجدتي وأبي وأمي. كانت أياما جميلة. ولكني لا أحن أبدا إلى مدافئ الفحم الحجري، ولا أدري لماذا الإنسان الذي يتمتع بنعمة الله يحن إلى ما هو دونها. بل أتمنى أن يرزق الله جميع الناس بالراحة التي توفرها وسائل التدفئة الحديثة.

للأسف، مثل الحنين إلى مدافئ الفحم الحجري، كثير من الحنين إلى الماضي غير صادق، بل مجرد نوستالجيا زائفة مؤقتة. ولا يستطيع معظم هؤلاء الذين يحنون إلى ما مضى أن يعيشوا اليوم لو سحبت منهم هواتفهم الذكية وقطع اتصالهم بالعالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي. ومن الأفضل أن يعيش الإنسان يومه ويستعد لمستقبله، بدلا من الحنين إلى الماضي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.