شعار قسم مدونات

فستان زفاف نسجه الحنين

blogs - فستان فرح
في وقت متأخر من الليل، وبعد ساعات من التحديق في سقف غرفتها المعتم، عزمت على الخلود للنوم، ودفن خيباتها في أعماقها، أخذت تنقل أنظارها في أرجاء غرفتها، لتأخذ نظرة أخيرة على مشهد ليلتها العاذبة، ثلاثة أسرّة في غرفة تقبع في سكن طلابي في مدينة إسطنبول، كانت تنام على إحداها، وعلى البقية أجساد غريبة لا تعرفها، فتاتان جمعها بهما السكن، إحداهن تعمل في معمل للخياطة تأتي في نهاية اليوم منهكة وتخلد لفراشها دون أي حديث جديد تبادل به الأخريات، والثانية كثيرة الصمت،  تفتقد الحياة الاجتماعية، لا يهمها أن تقيم أي علاقة صداقة خارج حدود سريرها وخزانتها.

هذا ليس بيتاً سيزف عروساً في الغد، تلك العروس التي لم تنم وهي تفكر في خيبتها، لم يخطر في بالها يوماً أن هذه هي هيئة أهم لحظات حياتها أو حياة أي فتاة حالمة، ستكون لهذه الدرجة من القسوة والغرابة، هي اليوم عروس تودع عزوبيتها بين فتيات غريبات لا يعرفن حتى أي شيء عن ماضيها وحاضرها، تجبر عينيها على النوم، لا تريد مزيداً من كوابيس اليقظة، فهي عزمت أن لا تجلد نفسها بتلك الوساوس، هي الفتاة الصلبة التي لا تكسر بسهولة، لن يهزمها فستان زفاف لم ينسج لها ولا حفل لن يقام لها، لن يهزمها عدم وجود أمها التي رحلت قبل أوان هذا العرس، ولا أقربائها الذين لم يهاتفونها منذ أكثر من خمس سنوات.

في الصباح الباكر، استيقظت والجميع كان نياماً، ودعت البيت في صمت وحملت حقيبة سفرها في تثاقل، لا وداع ولا عناق، فقط نظرات يتيمة إلى زوايا هذا السكن الذي احتواها عدة أشهر في فترتها الدراسية، أحسّت وللمرة الأولى بأن الجدران لها نبض وذاكرة، تشعر بدموع سريرها الذي تفارقه ومقعد دراستها.

كانت تعلم بأن الظروف كانت تغلب الموقف وأن الله شاء أن يمتحنها في أغلب أمور حياتها، ولاسيما غياب أنثى ترافقها في هذه اللحظات.. أم، صديقة، خالة، عمة، أخت.

تذكرت يوم عرض عليها ذاك الشاب الزواج، لم تفرح بقدر خوفها من أن تحين هذه اللحظة، فهي كانت تتخيل هذه اللحظات بأدق تفاصيلها وكأنها تعلم عين اليقين بوقوعها وقدرها المحتم في أن سعادتها في هذا اليوم ستسرق منها، حاولت أن تجعل هذه اللحظة بعيدة، أو أن تخفيها حتى من شريط العمر، هي لا تريد أن تشعر بحاجة هؤلاء الأشخاص الذين ماعادوا أصلاً على قائمة المتصلين، أن تكوني عروساً أي أنك بحاجة إلى مجتمع نسائي بأكمله إلى جانبك قبل أن تحين تلك اللحظة، أن تكوني عروساً أي أن حاجتك لأمك ستتضاعف بشكل متسارع لا يصدق، فلا يوجد متكأ غيرها ولا ملجأ، لكن بلى، كدت أنسى، يوجد ملجأ واحد، خالة تحل مكان أمك، لكن ماذا لو فُقدوا جميعاً؟!

كما هو حال عروستنا اليوم! استقلت القطار السريع متجهة إلى المطار، كانت تنظر في وجوه المارّة، تنتظر سماع كلمة تملّها العروس يوم زفافها "مبارك" ، ألا ينظر أحد إلى عروستنا اليوم ويبارك لها!

وصلت العروس صالة انتظار الرحلة المتجهة إلى ألمانيا، تجر وراءها حقيبة سفرها الصغيرة التي لا تحوي إلا على حاجاتها البسيطة، على غرار بقية العرائس اللاتي يخرجن معهن سوق تجاري بأكمله!

كانت قنوعة بما كتب عليها، إلا أن غصة الوحدة لا تغادر حنجرتها، كانت تعيد لها الذاكرة مشاهداً من عقد قرانها الذي أقيم في عليّة منزلٍ صغير في منطقة "أوسكودار" الآسيوية في إسطنبول، برفقة والدها الذي هرم لأجلها وصديق زوجها الذي كان وكيله في عقد القِران، كانت تعلم بأن الظروف كانت تغلب الموقف وأن الله شاء أن يمتحنها في أغلب أمور حياتها، ولاسيما غياب أنثى ترافقها في هذه اللحظات (أم، صديقة، خالة، عمة، أخت).

شتت ذكرياتها ذاك الصوت القادم من استعلامات المطار: "أعزائي المسافرين، على عروستنا التوجه للبوابة رقم ثلاثة! النداء الاخير!".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.