شعار قسم مدونات

ذات 25 يناير

blogs - علم مصر
ذات جمعة غير عادية جلست إلى شاشة التلفاز أتابع مجريات الأحداث تتوالى وتتصاعد. ذات جمعة خرج شوية العيال من ساحات المساجد في مسيرات ما فتئت تحتشد وتعظم. ذات جمعة ارتفع صدح الحناجر مطالبا بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ثم ما فتئت أن استوعبت ألا حرية ولا كرامة ولا عدالة إلا بتغيير قواعد اللعبة: الشعب يريد إسقاط النظام.

ظللت لساعات وأنا مشدود لشاشة التلفاز، أتابع عن كثب المد والجزر بين الشرطة والمتظاهرين، أتماهى مع الحركات والسكنات، وأنا هنا في أرض المغرب تفصلني آلاف الأميال عن المحروسة التي جعلنا أدباؤها وكتابها وممثلوها وساستها ننتمي إليها من حيث لا ندري، وتقتطع جزءا مهما في المخيال الشعبي العربي في عامته.

كانت الأمواج البشرية الهادرة تحمل على الخوف المسيطر عليها طيلة عقود من الصمت والخنوع، فيتجسد الشرطي أو العسكري الواقف أمامها بآلياته وسياراته وسلاحه وقمعه وماضيه الأسود؛ حائلا وجب تخطيه وهدفا آنيا في سبيل الهدف الأسمى.

كل ما حدث في ذلك 25 يناير لم ولن ينسى، وما صار من بعده من تدافع ونكوص وخذلان مجرد تفاصيل أطفات لهيب تلك الذكريات.

كانت لحظة عبور "الكوبري" من اللحظات الفارقة التي أسست لكل ما سيصير فيما بعد، كانت لحظة فارقة لأنها هزمت أسطورة الأمن كما حطم العبور أسطورة حاجز برليف في حرب أكتوبر. لقد خاض الجيش المصري معركته في تلك الحرب بنفس الروح التي خاض بها الشعب ثورته في لحظاتها الأولى، فلم تكن المآلات ولا الحسابات محركا للثائرين. لقد حركتهم الإهانة والاستصغار والحاجة والقمع والظلم… كل ذلك حرك الشعب البسيط بعيدا عن النظريات والإيديولوجيات، فعبروا نحو ميدان التحرير.. لقد تحرروا وإلى التحرير ساروا ليحرروا الوطن من القابضين عليه والزاجين به في غيابات التخلف والاندحار. لقد أيقنوا ألا سبيل للتراجع، ولا مجال للتفاوض: الشعب يريد إسقاط النظام.

تلك السويعات المتتالية هي أصدق ساعات مصر الحديثة، هي ساعات الحقيقة المطلقة، هي ساعات الألم الجماعي، هي ساعات الحلم الجماعي، هي ساعت القلب الواحد النابض بالحياة، هي ساعات الجنين المتمخض عن معاناة السنين، هي ساعات ظهور جبن المستحكمين، هي ساعات تردد واختباء الانتهازيين، هي ساعات غيرة الوطنيين الصادقين، هي ساعات صدمة المترفين… هي ساعات فقط من الصدق و الحب والبذل والعطاء.

في ذلك المساء، أرخى الليل سدوله على القاهرة مستغربا من استمرار الأشعة المتلألئة في ساحتها. وغادرت الشمس سماءها وهي مطمئنة لاستمرار نورها، فقد ظلت سنين وهي تنشر أشعتها لكن الأفق منحسر عن نظر المصريين، والليل منتش بديمومة غشاوته على القلوب والنفوس قبل الأبصار. في تلك الليلة لم يكن الليل عاديا، بل جاء بنور ما سبقته إليه شمس مصر الساطعة من قبل، ووقفت الشمس متلهفة علها تسفر عن غد مشرق.

كل ما حدث في ذلك 25 يناير لم ولن ينسى، وما صار من بعده من تدافع ونكوص وخذلان مجرد تفاصيل أطفات لهيب تلك الذكريات. ذات 25 يناير انبعث الشعاع الذي طمس فيما بعد، فهل سيعود للانبثاق من جديد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.