شعار قسم مدونات

بين الخراسان والصفيح

الصفيح
ليلة شتاء قارصة، فيها بات كل شيء منحنيا مع الريح ومتدثرا بنفسه من شدة الصقيع، فيها بات كل شيء يبحث عن مخبأ له يحميه من خطر يترقبه مع كل هيجان للريح، والغيم والمطر والبرد والرعود والبروق وما احتوته العاصفة.
 
في تلك الليلة، وتحت سقف من الخرسان المسلح، حفته الجدران السميكة، يحتسي ساكنيها مشروبهم الساخن مع بعض قطع الحلوى، ولكل واحد استمتاعه بالدفيء والإصغاء لصوت العاصفة خارجا، التي تحصنوا منها في مأمنهم، حتى أخذت العاصفة تمر عليهم بخفة غير لائقة بها!
 
الشتاء بالنسبة للفقراء، ما هو إلا ترجمة للألم والمعاناة، فكم من صغير قد انتهت فصول حياته التي لم تبلغ بعد الربيع، وكم من سليم نهشه المرض.

في نفس الليلة تلك، يمتزج صوت العاصفة مع بكاء الصغار، و دقات قلوب الكبار تحت الصفيح الذي يطرق، سارقا نظراتهم و مولدا عاصفة أخرى من الخوف داخل صدورهم، وصوت أنين تغشاه صوت المطر على صفيحهم، ووسط زمجرة الرياح، لا أحد يسمع "الآه" سوى آذانهم التي ألفت تلك الآهات، كلما قيل هناك منخفض جوي وعاصفة قادمة.

والكل ينادي على من هو قريب من المطبخ، لكي يأتي بوعاء آخر غير الذي ملأته قطرات الماء المتسللة من ثقوب الصفيح، أو سمه إن شئت "

 

ومع كل قصفة رعد تخلع القلوب من جذورها، يظن أولئك أن أجسادهم ستصبح أرضية للسقف والجدران المتشققة، فلا أمان من أن تكون تلك العاصفة هي المطرقة التي ستكسر البيت على ساكنيه، الذين يلتحفون الأغطية البالية، ويجعلون من بخار أجوافهم دفئا لأيديهم. فالشتاء بالنسبة لهم، ما هو إلا ترجمة للألم والمعاناة، وكم من صغير قد انتهت فصول حياته التي لم تبلغ بعد الربيع، وكم من سليم نهشه المرض، وكم من زفرة ألم، ودويها تحت ذلك السقف الذي لا يقيهم برد الشتاء، ولا حر الصيف وضيق الحال، والفقر الذي أصبح نصلا قاتلا لكل روح لها الحق في العيش الكريم.
 

فهذا قبس من لا شيء يذكر، من حكاية المنخفض الجوي في بيوت الفقراء، الذين تناساهم الكثير وهو يستمتع بالدفىء والأمان، فكأني بالإنسانية المخنوقة تكاد تزفر، تصرخ، بل تنفجر بصوتها (فليتفكر الغني بحال الفقير)، فلنضع أنفسنا تحت سقف الصفيح.. لا لشيء، سوى تلبية لنداء الإنسانية، سوى لنشعر ماذا يعني فقير في الشتاء! ماذا يعني الخوف من العاصفة؟ ماذا يعني تجمد الأطراف؟ ماذا يعني الموت بردا؟ ماذا يعني سقف الصفيح؟! 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.