شعار قسم مدونات

الواقعية التركية

أردوغان
تقريبا، منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، شهدت تركيا تطورا ملحوظا على جميع المستويات، من التعليم والصحة والخدمات وغيرها، حتى أصبحت واحدة من الوجهات السياحية والاستثمارية المفضلة لدى الكثيرين، وتوجهت أنظار العالم نحوها، والسبب في ذلك أن تلك البلد لها أهمية كبيرة عالميا وإقليميا، وزيادة على ذلك موقعها الجغرافي الذي يربط آسيا وأوروبا.
 

وقد رزقت تركيا بقيادة رشيدة، عرفت كيف تمسك العصا، وعرفت كيف تتعامل مع الواقع الذي لا يقل أهمية عن العلوم الأخرى، ابتداء في التعامل الداخلي مع هذه الكتلة السكانية الكبيرة، وكسب ولاء فئة غير قليلة من الشعب، بسبب النهضة الاقتصادية وغيرها، تخيل بسبب تلك الواقعية وصل الحال الى أن أول حزب معارض يقف ويناصر الحزب الحاكم " ِالعدالة والتنمية " وكلنا شاهد على حادثة الانقلاب الفاشل، الذي حدث في 15 يوليو 2016 الماضي، وأخيرا قضية تعديل الدستور.
 

سياسة تركيا الواقعية التي عرفت كيف تتعامل مع كل الظروف، كل ظرف حسب طبيعته وخصوصيته، إذا ما نظرنا إلى سياستها الداخلية كيف بدأت بالخدمات، ثم أدركت أن طموح الشعب لا يقف عند هذا الحد فذهبت بالحديث والعمل عن التاريخ والهوية، التي هي العمود الفقري لأي أمة من الأمم. وكانت نظرية تركيا هي " تصفير المشاكل " بدأها رئيس الوزراء التركي الأسبق "أحمد داود أغلو" وسار على دربه رئيس الجمهورية "رجب طيب أردوغان"، لكن مع تفاقم الأزمات وخصوصا فيما يتعلق بالوضع العراقي والأزمة السورية، أصبحت الأوضاع أكثر صعوبة، ثم بدأتِ تركيا بالحذر من النار التي تريد أن تكوي حدودها، وهي تدرك أن الأزمة العراقية السورية وأهدافها الخفية، هي استنزاف لدول المنطقة، وفي مقدمتها تركيا.
 

السياسية التركية تدرك، أن فهم الواقع هو أول خطوة في عملية مسك الخيوط وتحريكها.

في هاتين القضيتين، كانت تركيا مستهدفة بشكل أو بآخر، والسبب في ذلك أن النقلة التركية السريعة التي أحرقت المسافات، وقربت البعيد خلال فترة نموذجية، كان هناك هدف تنموي وأضح محدد الاتجاهات، والتي تغيرت به صورة تركيا، وذلك الذي أزعج الكثيرين مما جعل تركيا هدفا لهم.

هنا بدأت الواقعية التركية الحقيقية، خصوصا بعدما أدركت خطورة حلفائها وعدم مصداقيتهم، وأدركت بشكل واضح أن استهدافها بات جليا. عرفت تركيا أن دخولها إلى الاتحاد الأوربي أصبح شبه مستحيل لسببٍ ما، وبعد مجيء " داعش"، وتفاقم الازمة السورية، التي تعد من أولوياتها. حاولت تركيا جاهدة على إنشاء منطقة عازلة، لكن أدرك اعدائها واقعيتها وذكائها السياسي، فرفض المجتمع الدولي مجتمعا. ثم ذهبت تركيا مرة أخرى لتلعب بورقة تدفق اللاجئين عبر حدودها الى أوربا، حيث أرادت أن تضع الاتحاد الأوربي في زاوية معينة، لتكشف مصداقيته تحديدا حول تلك القضية.
 

وهنا وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، خذلوا تركيا مرة أخرى! وترتب على تلك النتائج خسائر كبيرة، على رأسها استقالة منظِّر ومهندس السياسة التركية السيد "داود اغلو"، وأصبح ذلك واضحا، أن تركيا بلا ذراع دولي، وتم عزلها عن العرب بشكل واضح، وعندما بدأت روسيا بالتدخل بالشأن السوري، ومن ثم دخول القوات الروسية إلى سوريا، والاستفزاز الروسي الواضح لتركيا في اختراق اجوائها أكثر من مرة، ومن ثم حادثة إسقاط الطائرة الروسية، والتصعيد السياسي بين موسكو وأنقرة، أراد اعداء تركيا توريطها في حرب مع روسيا، ولكن مرة أخرى جاءت واقعية تركيا، والرشد السياسي الخال من العواطف في تعاملها مع الأزمة، وكسبت الواقعية التركية المعركة.
 

ومن خلال ملاحظاتنا، كيف كانت التصريحات أثناء سقوط الطائرة وكيف تغيرت اللهجة في فترة قصيرة، ولكي يعرف الجميع حجم الواقعية وإدارة الضغوط، لأن تركيا كانت تدرك تلك المخاطر وما يترتب عليها، ومن ثم إعادة العلاقة مع روسيا سريعا إلى وضعها الطبيعي. وفي الوقت القريب، أثارت زيارة رئيس الوزراء التركي "يلدريم" إلى بغداد، وحادثة الدهس للجنود الإسرائيليين في فلسطين، حالة متناقضة وجدل كبير، ولكن هذه المرة من مؤيدي تركيا ومناهضيها، على أقل تقدير على المستوى العام، أخذ البعض يتكلم أن زيارة أنقرة إلى بغداد فيها ضعف للجانب التركي، لماذا وما السبب؟ غير واضح وكل تلك الاعتراضات كانت مناقضة للواقع.

وفيما يتعلق بحادثة الدهس، استنكرت تركيا الحادثة، وبالتأكيد هو تصريح سياسي لا أكثر، ولا يستطيع أحد أن ينكر موقف تركيا من القضية الفلسطينية، وأن هناك فصل تام بين السياسة والعاطفة، لأن الجميع يعرف أن السياسة هي عمل مصلحي، يتم على بناء التحالفات ونقضها، وانشاء تحالفات أخرى ، وكلنا يذكر حادثة ( الرسول صلى الله علية وسلم ) عندما عاد المسلم الهارب بدينه من قريش الى المسلمين، ثم أعادة الرسول- صلى الله علية وسلم- بسبب الاتفاق السياسي الذى تم بين الطرفين في صلح الحديبية.
 

والحدث الأهم حاليا هي محادثات أستانا، فمن ينظر الى تلك المحادثات بعمق، سيدرك الواقعية الحقيقة لتركيا، لماذا اختارت تركيا هذا الوقت بالضبط وأيضا ماهي مكاسبها وماذا تريد تحديدا؟ كلها أسئلة في غاية الأهمية، وتستمر تركيا في واقعيتها التي تصعب على كثير من دول المنطقة أن تمارسها، والسبب في ذلك، أن السياسية التركية تدرك، أن فهم الواقع هو أول خطوة في عملية مسك الخيوط وتحريكها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.