شعار قسم مدونات

الزمن الجميل

ventage
تظهر أعراض الحنين إلى الماضي في مجتمعاتنا كثيراً وخصوصاً في هذه الفترة، وأزعم أنه من الصعب أن تجد من يدّعي أنه لم يقع في فخها يوماً من الأيام، ولطالما سمعنا دائماً جملاً على نحو: كانت الحياة زمان غير، وكان الجمال غير، وكان الفن غير… إلى آخره من هذه الجمل الرومانسية الحالمة.

 

تتزايد أعراض متلازمة الحنين هذه بشكل اضطرادي مع ازدياد سوء الأوضاع التي تعيشها دولنا اليوم، إذ نرى حنيناً مبالغاً فيه للماضي، ومحاولةً حثيثةً لتصويره بشكل رومانسي حالم، حتى من قِبل كتاب ومفكرين مشاهير. كما أننا نرى كثيراً من طبقات مجتمعاتنا تقدس الفعل الماضي "كان" كثيراً ولكنها تتناسى في الوقت ذاته أنه فعل ناقص منتهٍ، لن يُفيد سوى الإتيان بخبرٍ تمّ وانقضى.

والماضي هنا يختلف اصطلاحه باختلاف ثقافة الشخص وفكره: فالإسلامي يرى أن المثالية في الماضي كانت في عهد الخلافة، والعروبي يرى أن الماضي الجميل هو في فترة حكم جمال عبدالناصر، وقل مثل ذلك على الاشتراكي واليساري والقائمة تطول، فجميعهم ينظرون إلى الماضي بنظرة اجتزائية قاصرة، تصوّره وكأنه كان مليئاً بالورود.
 

اقرأوا التاريخ بعين الناقد لا المُعجب! وانطلقوا بعد ذلك إلى بناء مستقبلكم بما يتوافق مع معايير عصركم ومفاهيمه، فلم يُكتب التاريخ كي نُعيد محاكاة أحداثه ولا أشخاصه، ولا لنندب واقعنا ونقارنه بما كان عليه أسلافنا، ولكنه كُتب كي نأخذ العبرة والعظة منه.

لا شك أن هذه النظرة المثالية هي نتيجة طبيعية لحالة الفشل التي مُنيت بها أمتنا بعد قرن على استقلالها، فعندما نرى دولاً أفريقية كانت صورها مرتبطة في أذهاننا بالتخلف والتبعية قد تفوقت على دولنا في عدة مجالات، فلا شك أن الإحباط نتيجة طبيعية لشعوبنا حينها، ولا شك أيضاً أن الحنين للماضي سيأتي مصاحباً لهذا الإحباط، أضف إلى ذلك أن الأمل في مستقبلٍ أفضل في دولنا شبه منعدم، فماذا سينتظر الناس من أنظمة سياسية فاشلة في كل شيء تقريباً، خصوصاً بعد أن جربتها مراراً وتكراراً؟!
 

فقدان الأمل يوّلد عجزاً عن التغيير، مما يجعل الموقف أصعب، هل يبقى بعد هذا إلا أن يهرب الناس من واقعهم نحو ما قرأوه في الكتب عن أمجاد أسلافهم، أو حتى نحو الماضي القريب الذي سمعوا قصصه من أهاليهم، حين كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية في الدول العربية مستقرة إلى حدٍ ما.
 

الافتتان بالماضي أمرٌ ليس بالجديد، ولم تكن أمتنا أول من ابتليت به، فالحقيقة أن عصر النهضة الأوروبي الذي كان ما بين القرن الرابع عشر والسابع عشر الميلاديين قام على فكرة الافتتان بالماضي الكلاسيكي، وبالحضارات التي قامت يوماً ما في إيطاليا واليونان القديمتين، ولكن عصر النهضة تميّز بنتاجٍ أدبيٍ وفنيٍ فريد، وهو ما نفتقده في واقعنا حالياً، إذ أن عصر الافتتان بالماضي جاء مصحوباً عندنا برداءة شملت جميع المجالات.

ومن المهم ذكره أن عصر الحضارة الغربية الحديثة لم يبدأ إلا حين بدأت هذه الشعوب في النظر إلى الأمام لا الخلف! مما ساعد هذه الأمم على تحسين أوضاعها السياسية والاجتماعية، ومما جعلها تنهض هذه النهضة التي نشهد أوجها اليوم، لا أدعو هنا لقطع الصلة مع الدين أو الثقافة أو التاريخ، ولا أدّعي أن هذا سبباً من أسباب النهضة كما يُشيع "المُستلبون" للغرب ذلك، ولكنني أرى أن جزءاً من أزمتنا يكمن في أننا ننظر إلى الخلف دائماً، وأننا نحاكم واقعنا بناءً على معطيات التاريخ وأحكامه، وهو ما يشكّل انفصالاً عن الواقع.
 

من المهم جداً أن نقرأ تاريخنا بشكل جيد، لا لنُسهب في مدحه والإشادة بأشخاصه، ولا لكي نحاكم أنفسنا إليه، بل لكي ننقده ونتلافى الأخطاء التي حدثت فيه، ونتعلم الدروس منه، فلا تاريخ بلا أخطاء أو مآسي، ولا أمة تبغي الصعود والرفعة بلا تاريخ. اقرأوا التاريخ بعين الناقد لا المُعجب! وانطلقوا بعد ذلك إلى بناء مستقبلكم بما يتوافق مع معايير عصركم ومفاهيمه، فلم يُكتب التاريخ كي نُعيد محاكاة أحداثه ولا أشخاصه، ولا لنندب واقعنا ونقارنه بما كان عليه أسلافنا، ولكنه كُتب كي نأخذ العبرة والعظة منه. الزمن الجميل ليس كل ما كان قديماً، بل هو الزمن الذي نستطيع أن نصون فيه كرامة الإنسان وحريته، ونُقيم فيه العدالة، ونُعيد فيه بناء أوطاننا التي أصبحت على حافة الانهيار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.