شعار قسم مدونات

ازهدْ.. لا تُغْضِب المُسْتَبِدّ

homeless
(1) "المال سلاح المؤمن في هذا الزمان.. سفيان الثوري"… الزاهد هو المُعرِض عمّا عنده لقلَّة شأنه لديه. والزهد أن يكون المال في يدك لا في قلبك. إذا تتبعنا مفردات هذا التعريف لوصلنا إلى حقيقة أن الزاهد ينبغي أن يمتلك ابتداءً ما يزهد فيه من حيث الأصل -أو على الأقل لديه القدرة على الوصول إليه-، ثم يتخذ بعد ذلك قرارًا داخليًا أو إجراءً حاسمًا بالإعراض عنه وتحاشيه، فلا يُتصور عقلاً أن يعرض إنسان عما لا يملك؛ فكيف يصح مثلاً أن يسمى الأعمى زاهدًا عن النظر إلى الحسناوات؟! أو الأبكم زاهدًا في الإنشاد والغناء؟! أو الأصم زاهدًا عن السماع وخلافه؟! وبالتالي لا يسمَّى زاهدًا في المال إلا من يملكه أو يملك إمكانية الحصول عليه، كما لا يسمى زاهدًا في السلطة من لا يملك القدرة أصلاً على التسلط أو القيادة.

 

إن الزاهدين الحقيقيين في السلطة هم الأنبياء، عرضت عليه الدنيا فأعرضوا عنها، سووموا على الملك، وأجمل النساء، للتنازل عن أمر الدعوة فرفضوا وفضّلوا ما عند الله.

فالعجز ليس زهدًا مطلقًا، والزاهد ليس عاجزًا، وإنما هو شخص قادر، لديه أهلية التصرف، لكنه أعرض زهدًا وترفعًا. إلا أن الموروث الديني والثقافي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية -والعربية على وجه الخصوص- قد رسّخ في عقولنا بصورة ساذجة -مقصودة أحيانًا، وغير مقصودة أحيانًا أخرى- مفهومًا مشوَّهًا عن الزهد، مفاده أن الزاهد هو الفقير الذي لا يملك شيئًا، فينتج عن ذلك أن يتفاخر العاجزُ عن الكسب بتسمية نفسه زاهدًا في الدنيا، معرضًا عنها مترفعًا عن دناياها، وهو في الحقيقة لو أشارت له الدنيا من خلف الحُجب لأقبل إليها مهرولاً يسيل لعابه.

عزيزي الفقير: أنت لست زاهدًا، أنت تخدع نفسك وتبرر عجزك بادعاء الزهد، لقد رسّخت تلك الموروثات كذلك لدينا، أن الغباء والقعود وبلادة العقل زهدٌ، ومدعاة لفخر صاحبها، الذي فضّل أن ينزوي بعيدًا عن صراعات الكراسي والتطلعات والمناصب، وهو في الحقيقة مجرد عاجز، أقعدته قدراته عن المنافسة وتحقيق النجاح. إن الزاهدين الحقيقيين في السلطة هم الأنبياء، عرضت عليه الدنيا فأعرضوا عنها، سووموا على الملك، وأجمل النساء، للتنازل عن أمر الدعوة فرفضوا وفضّلوا ما عند الله. إن الزاهديْن الحقيقيين أبو بكر وعمر، اللذان حقَّقا مقومات القيادة أولاً، ثم تدافعاها تاليا، كل منهما يريد التخلص من تبعاتها ويلقيها إلى الآخر، ويريانها محض مسؤولية وتكليف لا تفضيلاً ولا تشريفًا.

(2) استطاع الخطاب الدعوي الدائر في فلك السلطة في أكثر من دولة عربية في العقدين الماضيين، أن يهيئ المجتمعات للمستبد، بمثل هاتيك الدعاوى، لقد دندن الدعاة الذين لم يفطنوا لحقيقة الزهد -أو فطنوا فبدَّلوا- حول مفهوم (الزهد الفقريّ)، هكذا بكل بساطة، أن الفقر هو حقيقة الزهد التي ينبغي أن يسعى إليها الجميع، في حين لا تتحرك ألسنتهم بفضائل الغنى، إلا أمام الرأسماليين العُتاة، الذين يغدقون عليهم الهدايا من هنا أو هناك. وهذا غاية التبديل والتدليس.
 

إن المال وسيلة الزاهد في تحقيق أهدافه، لا في قضاء أوطاره، أو إشباع نزواته، فـ(نعم المال الصالح للرجل الصالح)، و(ونعم العون على طاعة الله: الغِنى)، فالمال خادم صالح، يصان به العرض، ويُتقرَّب به إلى الرب، وهو سلاح المؤمنين في هذا الزمان.

وبناءً على ذلك، بات البائس الذي يستشعر أنه حقق إنجازًا أخرويا – بأن صار زاهدًا كبيرًا- لا يشكّل خطرًا من أي نوع على السلطة الحاكمة؛ بل على العكس تقرّرت في دواخله حالة متضخمة من الامتنان للمستبد، بأنه أسدى إليه معروفًا كبيرًا بأن أبقاه على حالة الزهد-بمعنى الفقر- التي يفتش عنها لتكون ضمانة له للتقلب في نعيم الآخرة، هكذا بلا شعور منه، ينطلق عقله الباطن في رسم صورته الأخروية المتحولة من الزهد/الفقر إلى المتعة اللا متناهية، ضاربًا عرض الحائط بما يوجبه عليه حال المستبد من الثورة والاحتجاج، يمنّي نفسه بالمستقبل الأخروي، ضاربًا بكل عزمه الأمل في الاغتناء والقضاء على الفقر والعوز، معلنًا بلسان الحال: أنا العابد الزاهد، لا حاجة لمقارعة المستبد! إن الدعاة الزائفين المغرضين، شركاء المستبد في ترسيخ استبداده بتشويه مفهوم الزهد في عقول الناس، وهم أداة من أدوات مراكز دراسات السلطة، تستخدمها للتأثير في الشعوب للرضا بالأمر الواقع المذري، بل واعتباره غاية كبرى يتطلعون للوصول إليها.

(3) لعلنا نتساءل: هل يطالبنا الله أن نكون فقراء عالة يتحكم فينا الرأسماليون الفاسدون أحسنوا أم أساؤوا؟! أم يطالبنا بأن نكون أصحاب نفوذ اقتصادي قوي يحرّك الأحداث ويوجه بوصلة الحياة؟ هل يطالبنا بأن نترك السلطة بأيدي المتعجرفين غلاظ الأكباد، ممن لا يقوم بموجباتها من العدل والإحسان إلى الخلائق، بدعوى الزهد فيها والنأي بالنفس عن الصراعات؟! أم يطالبنا بمزاحمة المستبدين بقيمنا العليا لإزاحة الاستبداد وإفشاء العدالة والرحمة؟

الزهد ليس استكانة ورضا بالفتات المغموس في أطباق المذلة. الزهد قرار، والفقير لا يملك القرار، فكيف يكون زاهدًا؟ إن الزاهد هو من يُلقَى المالُ والسلطة تحت قدميه فيركلهما إلى غير رجعة، لا الذي فقد قدميه، فلا يسير ولا يركل! لقد برر الدعاة المغرضون للمستبد الفساد والأزمات الاقتصادية، وغلاء السلع بدعوة الناس إلى الزهد في الدنيا، وعتابهم على توسعهم في الإنفاق على الطعام والشراب والملبس، فبدلاً من أن يلوموا القاتل، يوجهون سهام العتاب إلى المذبوح بسكين الاستبداد صارخين: ويحك، اقتصد، لا تفقد مزيدًا من الدماء!

(4) إن المال وسيلة الزاهد في تحقيق أهدافه، لا في قضاء أوطاره، أو إشباع نزواته، فـ(نعم المال الصالح للرجل الصالح)، و(ونعم العون على طاعة الله: الغِنى)، فالمال خادم صالح، يصان به العرض، ويُتقرَّب به إلى الرب، وهو سلاح المؤمنين في هذا الزمان، وهو زينة الدنيا وبهاؤها الذي يضفي عليها نكهة البهجة والألق، أما الفقر فما ضُرِب العبادُ بسوطٍ أوجعَ منه، فهو كنز البلاء، وهو موت أحمر متلفعٌ في ثوب أسود، يسكنه الخضوع والخنوع والمذلة، فالفقير خفيض الصوت، زائل المهابة، قليل الحيلة، ضعيف القلب، ممحوّ الأثر، أول من يُضطَهَد، وآخِر مَنْ يُرتجى، إذا نزل بقوم لم يأبهوا له، وليس موضع تأثير ولا تغيير.

وقال بعض الحكماء: (إذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمنًا، وأساء به الظن من كان ظنه به حسنًا، وما من خُلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب، فإن كان شجاعًا سمي أهوج، وإن كان جوادًا سمي مفسدًا، وإن كان حليمًا سمي ضعيفًا، وإن كان وقورًا سمي بليدًا، وإن كان لَسِنًا سمي مِهذارًا، وإن كان صَمُوتًا سمي عَيِيّا. فالموت أهون من الفاقة التي يضطر صاحبها الى المسألة لا سيما من البخيل).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.