شعار قسم مدونات

مذكرات ميت (3) ليس كلُ الموتِ موت

BLOGS- سوريا
أقفُ وقد تناسيتُ عدَّ الوقتِ في غوصي في هذا الموت -غربتي-، وأحاولُ أن أقلَّبَّ في ما مضى من سنون متعبة، أتفقهُ من تعبي ووجعي وأتعلمُ من كيسي لأزدادَ وأكتسب ما أكتسبه من قوةٍ لرحلتي في عقيم هذا الموت، فتقعُ يديَّ على رسالةٍ لا أتذكرُ مرسِلِها، أو أظنهُ مجهولًا يناطحني ويدفعني من ضعفي إلى استبصاري ووعي، ليزيدني صبرًا وحمدًا في رؤيةِ مصيبتهِ وإمعاني بأن ما بي من موتٍ ليس إلا موتَ رحمةٍ لا أكثر، كتبَ المجهولُ:
 

(أنتم لا تعرفون شيئاً عن أوجاعنا، ولا تعرفون مقدارَ الموت الذي نتكبده في كل مرةٍ أو لحظةٍ أو وقتٍ يمر، قضيتنا ليست كاملة للعيان، وليست مشاهدةً ولا واضحةً بالشكل الأعم. أنتم تعرفون أن هناكَ طرفان يتصارعان، فريق الحق وفريق الباطل، وأنَّ الحق تشرذمَ وتعدد وخاض أصحابه بالعديد من التوجهات والإختلافات والتقسيمات، وأنَّ الباطل يفعل كل ما يفعله ليُشرعِن كل قضاياه المزيفة ومصالحهُ ومايريد. أوجاعنا أكثر موتاً مما تتصورون.

أنتم لا تدورن حجم الشقاء الذي نكابده، ولا تعلمون مدى الجرح وعمقه، الحياةُ أو مماتنا الذي هيئته حياة كما تظنون هو ليس إلا جزء ضئيلاً مما تغلغلَ فينا من موت.

أنا أحملُ السلاحَ منذ أن ولدتْ هذه الثورة أوالفوضى أوالموت -أسموها ما شئتم- ومنذُ أن أعلن الأطفالُ صياحات الحرية في جنوب البلاد، أحمله ولا أعلم ما الذي تعنيه الثورة، وأقفُ في صف الجيش الذي اسمه على اسم بلادي، أقفُ وأتناولُ من الآراء ما يُملونه علينا، وأتشبع بكل الأفكار التي قد تخالف الحق وتبيده، حتى تلبسَ عقلي كل ما يعتقدونه هم، بالمختصر بتُ أفكر كما هم يريدونني أن أفكر، وأنا الطفل في عيني أبي وأمي وأخوتي، عقلي الذي لم يتكون بالصورة التي تساعدني على مفاضلة الأشياء به والرؤية والبحث في الآراء، وإن كان هذا الأمر فلن يكون في قوقعةِ البلاد التي أحيا بها الأن.

بعد سنواتٍ من التعبٍ وسنوات من الصراع الذي لا أعرف أصله أو سببه، قررتُ أن أحمل نفسي وأهرب من كل ما أراه وكل ما شعرتُ أنه لا يناسبني، فماتَ من ماتَ بقربي، وقتل بدواعي الخيانة أعز صحبي، فماتتْ نفسي هنا، وعشش الخوفُ في قعر قلبي، أُصبتُ بعد هذا بمدة، وأنا أقفُ حارساً ولا أعرف ما الذي أحرسه أو ممن أحرس هذا العدم الذي لا أعرف، كان الله دوائي وشفائي ولا مستشفى ولا طبيب يعينان جرحي وألمي، تكلسَ قهري بين أعضائي، وباتتْ رصاصةُ الذنبِ قابعةً بينَ عظامي.

وبتُ أنا وتيهي ورصاصةٌ ونجاةٌ من الموتِ وسلاحي -الذي لا أعرف كيفَ حملتهُ ولمَ حملته وضدَ من أحمله- نقفُ عند مفترق طرقٍ وعندَ كثيرٍ من التعب، ولو حاولتُ الفرارَ إلى الطرف الأخر إما سأقتل ممن أنا في صفهم، أو أقتل ممن لا أعرف من هم ولمَ يحاربون، وبعد مضي خمسُ سنوات بعداد الأيام، وآلآفٍ من السنين بعداد الموت والتعب، ها أنا أقفُ محاصراً بينَ كل التعب والضجيج والصخب، أقفُ مدافعاً عني وعن ضعفي ووعي الذي لم يكن إلى الآن كافياً لمعرفة لماذا يتقاتل الجمع ها هنا.

ولكن هذا جزءُ الوجع الضحل الذي قد تعرفونه، هل تعلمون بعد كل هذا ما حال والديَّ الذينَ فقدوا أبنائهم الثلاثة بسبب السفر والهجرة والإغتراب، كي لا يكونوا مثلي وفي ذات مأزقي، وبعد أن أكرمهم الله بزوجٍ لابنتهم وكان هو الدفء الذي لربما يعوضهم عن أبنائهم، أُخذَ في وضح النهار ليُجبرَ على القتال وحمل السلاح مثلي أو بصورة أسوأ مني، وتركَ زوجةَ وطفلين لم يشهد ولادة الثاني منهما.

والجزء الأخير من الوجع، هو تقاسم وجعي بينَ أهلي فكل واحدٍ منهم يحمّلُ نفسه سبب كل أوجاعي وإصابتي وعجزي، فمنهم من يصرخُ كل يوم ألف صرخةٍ، ويرفعونَ ألفَ دعاء نحو السماء، وخوف موتي يأكلهم، وخوف الفقدِ ينهشُ من روحهم، هم حيارة بينَ الحق وبينَ مكان وقوفي، هم تائهون ويسألون: هل سيرضى الله عنهم لأنهم تركوني أذهب؟ وهل سيرضى الله عني لأني وقفت ولم يسعفني التصرف والظرفُ أن أفعل؟

وما عساي أن أقول وأنا الواقف حيث لا يجب أن أقف، وأنا الواقف ضدَ الذي لا عليّ أن أقف ضدهُ ومعه، فالوعي في كل فعل والفقه هو أهم الوقوف وهو أهم الحق، اللهم عقلاً راجحاً وتصرفاً حسناً وحقاً في قلوبنا منتصر.

أنتم لا تدورن حجم الشقاء الذي نكابده، ولا تعلمون مدى الجرح وعمقه، الحياةُ أو مماتنا الذي هيئته حياة كما تظنون هو ليس إلا جزء ضئيلاً مما تغلغلَ فينا من موت.) سكتت الرسالةٌ فجأة، وسكتَ قلبي بتذكرها، وأُبقي الكلامُ ومابقي منه -وإن بقي- لكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.