شعار قسم مدونات

تأصيل ثقافة الخرافة والوهم

blogs - لعبة ورق
منذ أن وعيت على الدنيا في سبعينيات القرن الماضي، ونحن نتعرض لحملة تجهيل شعواء هدفت ولا تزال إلى ربطنا بوثاق الخرافة وجعل طاعتها من الأمور المسلّمة بها، بسبب ربطها بالدين أحياناً، أو التخويف من عقابٍ ما أحياناً أخرى، وكأننا يجب أن ننقاد لخرافات تؤثر فينا وتجعل عقولنا قلقة ومضطربة!
في بعض البلاد العربية كانت بعض النساء العجائز تدخل المقاهي وتنتقي من تشاء من الروّاد، وتجلس بجانبهم على الطاولة، وتلقي بحجرها وتتنبأ بأحلامهم ومخاوفهم التي كانت تنطبق على الجميع فكلهم، على الأغلب لهم نفس التطلعات والأماني، فيندهشون من معرفتها "للغيب" ويصدقونها. فمثلاً كانت تسأل عن مهنة كل واحد ثم تتنبأ له بما يدغدغ أحلامه، فالطالب سيصبح موظفاً كبيراً أو ضابطاً أو طبيباً وسيظفر بقلب حبيبته رغم معارضة أهلها، (مهمة هذه النبوءة)! ثم كان البعض ــ لا أعرفهم ــ يوزعون علينا قصاصات ورق يكتب عليها أدعية لا ندري من أين جاءت، أو حتى قصة قصيرة جداً من قصص الخيال الجامح عن بعض الصالحين غير المعروفين، الملا عبدالله مثلاً، ثم يُطلب من كل واحد أن يوزع مضمون هذه الورقة على عشرة أشخاص على الأقل، والأفضل أن ينسخها بخط يده ويوزعها وستتحقق أحلامه أو أن "الصالحين" سيساعدونه في الامتحانات والوظيفة ويهزمون أعداءه، ويفكون السحر الذي عملته له زوجة أبيه، أو بيت عمه الذين يحسدونه على دراسته أو وظيفته!

وبعد التقدم التكنولوجي وثورة الاتصالات الرهيبة، ظننت أن هذه الخرافات قد انتهت. ولكن حملة التجهيل استمرت حتى في عصر الكمبيوتر والإنترنت، حيث كانت تأتينا في العقد الأول من هذا القرن ــ الواحد والعشرين ــ رسائل بريد إلكتروني (إيميلات) بأنه على المستلم للإيميل أن يرسله إلى كل من هو في قائمة الأسماء، أو ربما يحددون عدداً معيناً، خلال فترة قصيرة وإلا فإن الهوت ميل Hotmail سيلغي حسابه المجاني ويجعله يدفع ثمناً لا بأس به مقابل خدمة الإيميل، أو أن الهوت ميل سيغلق الخدمة نهائياً! ولم تتوقف المسألة عند خدمة "الهوت ميل" بل تعدتها إلى أمور أخرى تُمعن في محاولة زرع الخرافة في أذهاننا. ففي إحدى المرات أرسل لي أحد طلابي القدامى، وكان يتابع دراسته في لندن، إيميل ـــ للأسف نسيت مضمونه ـــ يخبرني أنه عليّ أن أرسله لثمانين شخصاً خلال أربع وعشرين ساعة، وإلا فإنني سأموت بعد تسعة أيام، وحلف لي يميناً معظماً أنه يعرف أحد الأشخاص تجاهل الإيميل ومات بعد تسعة أيام!! وعنما (استسخفت) الأمر قال لي: "قسماً بالله ستموت بعد تسعة أيام يا أستاذ إن لم ترسل الإيميل للعدد المحدد وسأتصل بالأستاذ (فلان) كي أتأكد، لكن والله خايف عليك يا أستاذ"!

إن الإمعان في الخداع والتزييف، هو اختبار لعقولنا، ولتعشعش الأوهام في أذهاننا ونبقى على استعداد لتصديق ما لا يصدق. ولنفهم أن هناك من يؤثر على حياتنا، وأن هناك أموراً تجري رغم أنوفنا.

نسيت الأمر من حوالي تسع سنوات حتى جاءتني رسالة على الواتساب من أحد الأصدقاء في 8/11/2014 وهي باللغة الإنجليزية وفيها ما معناه: هذا هو التحذير الأخير لمستخدمي الواتساب حيث ستصبح الخدمة (بفلوس)، ولكن إذا ترسل هذه الرسالة لـ 18 شخصاً على قائمة أصدقائك، فإن الأيقونة في جهازك ستصبح زرقاء وستكون الخدمة مجانية لك وإن لم تفعل، فإننا سندفع جميعاً ثمناً للخدمة فرجاءً حاراً بادر بإرسالها إلى كل الأسماء في القائمة وليس إلى 18 فقط، لنثبت لهم أننا نشيطون –ومن أهل النيّة الحسنة! والرسالة مكتوبة بالإنجليزية ليطال تأثيرها ما يعتقدون أنه مثقف نظراً لإلمامه بالإنجليزية!

وما كدت أنتهي من صدمة الرسالة المكتوبة بالإنجليزية، حتى جاءتني رسالة أخرى في 30/11/2014 تحذر من السحرة والمشعوذين الذين يضيفون أرقامنا على الواتساب، وإذا كان أحد الناس قد وضع صورة طفله على البروفايل، فإن الساحر سيتصل بصاحب الرقم ويطلب منه مبلغاً من المال وإذا لم يرسله، فإن الساحر سيسحر طفله! وتضمنت الرسالة عدداً من أرقام الهاتف التي تأتي منها مكالمات التهديد مع التوصية بعدم الرد لأن الساحر سيتمكن ـــ تصوروا ــ من تهكير رقمك وسحب رصيدك وربما يسحرك من صوتك!! يا لطيف الطف!! تخيلوا معي 18! لماذا هذا العدد بالذات؟ ثم إن الساحر يسحر الأطفال، ولماذا لا يسحر الكبار؟ يسحر الشخص على أساس صوته! ويهكر الجوال ويسحب الرصيد! يا ساتر!

ومؤخراً، في أواخر شهر تموز/يوليو 2016، انتشرت رسالة أخرى على الواتس أب مفادها أن شركة هونداي بصدد توزيع 150 سيارة مجانا والتسليم فوري، وما عليك سوى تعبئة الطلب المرفق في الرابط الموجود في الرسالة. وتواصلت رسائل الأصدقاء لبث الخبر السار. حتى أن بعضهم اشترط على صديقه أن يأخذ نصف السيارة إن كانت من نصيبه، لأنه هو من دله وأرسل له رابط النموذج ليدخل السحب!! الجيد أن بعض الجهات حذرت من هذه الرسالة بعد انتشارها، مؤكدة النية الخبيثة وراءها، حيث تهدف إلى بث بعض البرمجيات عند فتح الرابط للتخريب! ولكني أعتقد جازماً أنه لا توجد برمجيات خبيثة، والدليل لم نسمع من أحد، ممن شاركوا وهم بالآلاف، أنه تعرض للأذى من فتح الرابط، وإنما القصد هو الاستمرار في محاولة ربطنا بالأوهام والغيبيات والتأكد من جهلنا وتخلفنا! وللعلم فإن رسالة "هونداي" جاءت بعد أشهر قليلة من رسالة مشابهة من "تويوتا" تقدم فيها 300 سيارة بنفس الطريقة!! لا نتعلم، ونؤكد لهم جهلنا وتمسكنا بالوهم!

إنه الإمعان في الخداع والتزييف، واختبار لعقولنا، ولتعشعش الأوهام في أذهاننا ونبقى على استعداد لتصديق ما لا يصدق. ولنفهم أن هناك من يؤثر على حياتنا، وأن هناك أموراً تجري رغم أنوفنا، وكأن الهدف تعميق الارتباط بالخرافة والتمسك بالأمل الزائف! والهدف الآخر الذي لا يقل أهمية عن الأول، وهو اختبار مدى تقدمنا المعرفي والعلمي! وهي حملة منظمة خبيثة تنتهج مبدأ "بطيء لكن أكيد" ــ slow but sure!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.