شعار قسم مدونات

عن العربي "المعتر"

BLOGS- الإنسان
في سهرة خميسية من سهرات الفضفضة العائلية، وفي جو من الاسترخاء و"رخي البدن" المصحوب بالأضواء الخافتة ورائحة المعسل الخفيفة التي كانت تهِف على طاولتنا كل قليل، كان صوت أم كلثوم يأتينا في الخلفية وهي تغني "يا مسهرني" بينما نحتسي الشاي الساخن بأوراق النعناع ونراقب ألسنة اللهب الخافتة الصادرة عن مدفأة الحطب في آخر المقهى.

أخذ أحد أصدقاء العائلة المعروف بخفة دمه وصراحته اللاذعة يتحدث بصوت خافت ما لبث أن تصاعد تدريجيا مع تزايد حركات يديه واندماج تعابير وجهه أكثر فأكثر مع حديثه، بعد أن قطع فجأة الهدوء الذي خيم على الجميع لفترة لا بأس بها. لم أكن أنوي في بداية الأمر الإنصات لحديث الرجل الستينيّ، فلم أرده أن يخرجني من حالة الاسترخاء والسلطنة التي كنت مستمتعة بها، لكن انفعال الرجل بالحديث واهتمام الجميع الواضح بما يقوله قد أجبرني على إعارة انتباهي وأثار فضولي فعلا.

 

لقد تكالبت على العربيّ كل أنواع الظروف التي له يد فيها والتي ليس له يد فيها لتشكل توليفة من المعاناة صعبة الاختراق، وُلد العربيّ حاملا إياها وورِثها من قبله أجيالٌ وأجيال.

لا أذكر كيف بدأ العم أحمد حديثه، وما الذي قاده بعد ذلك لتلك المقارنة الصريحة التي قام بها بين إنسان عاديّ يعيش في الغرب وآخر يعيش في أحد البلاد العربية: "يا أخي عندما يولد الرجل الغربيّ يجد نفسه يعيش في جنة الله على الأرض، الخضرة تحيط به من كل جانب وينابيع الماء تتفجر من حوله، يتنفس هواء نقيا ويمشي بشوارع تضاهي نظافة منزله. لا تذهب بعيدا، هو نفسه آية من الجمال، وسيم، أشقر، طويل، جسمه لبيّس يليق به أي لباس يرتديه، وكأنه قد فصل خصيصا له، هادئ الطباع، منظم الأفكار، منخفض الصوت، دائم الابتسام كأن لا همّ يشغله ولا أعمال تنتظره، عندما ترى أولاده تظن أنهم مذ جاءوا إلى الدنيا لم يفعلوا شيئا سوى التدرب على الألعاب الإبداعية وفنون الإتيكيت، يا أخي "ها الجماعة" مو معقولين.. وحياة الله مو معقولين"!

هنا استطرد الرجل بجرعة أكبر من خفة دمه المعهودة وقد غيّر نبرة صوته لتصبح أكثر جدية وألبس تعابير وجهه ثوبا من القرف والرثاء: "أما العربي "المعتر"، فمنذ اليوم الذي بشرّت به الداية وأخذت حصتها من البقشيش بالخبر السعيد، وهو يخرج من مشكلة ليقع بأزمة فيهوي بمصيبة، أما عن شكله فحدث بكل الحرج، طوله متر ونصف، أغبر الوجه، أشعث الشعر، أنفه المعكوف يشبه "فرد الكازية"، كرشه يتدلى من فوق الحزام، لا يعجبك شكله ولا يطربك كلامه، قد أكلت الشمس أجزاء من وجهه لتترك بشرته بلون بشرة العساكر، لا ظل يتفيأ فيه ولا لون أخضر يمتع به ناظريه، لا شيء سوى الرمال والغبار والحفر المنتشرة في الطرقات وألوان الغسيل الزاهية التي تزين شرفات البيوت بينما تظهر العشوائيات في خلفية المشهد من بعيد.

عندما ترى أولاده تحس كأنه قد اُطلق سراحهم للتو من حديقة الحيوان، يصرخون ويجرون في أنحاء المكان كالمجانين، أما الأكبر سنا فيتم تلقنيهم قبل إخراجهم من المنزل ما يقولون ويفعلون أمام الناس؛ خوفا من فضائح متوقعة تنم عن أسلوب التربية المتعوب عليه تماما، يا أخي يكفيك نظرة واحدة لوجه العربيّ حتى يركبك الهم والغم ويتملكك الإحساس بالعجز وتسوّد الدنيا بعينيك.


ثم ختم العم أحمد حديثه بالمثل الشعبي متحسرا على حالنا: "اييييييه خليني ساكت أحسن، شو بدي اتذكر منك يا سفرجل لأتذكر، كل عضة بغصة!" تعالت أصوات ضحكاتنا في أرجاء المقهى ليس فقط لخفة دم الرجل وموهبته في جعلنا نتفاعل معه وكأننا نرى الشخصية تتجسد أمام أعيننا، بل لمدى صحة كلامه وانطباقه على أرض الواقع، ومع لجوء العم أحمد إلى المبالغة والتعميم في النموذج الذي اختاره للرجل الغربي ثم العربي لهدف الفكاهة، إلاّ أن وصفه -للأسف- صحيح إلى حد كبير ومؤلم إلى حد أكبر، فنموذج العربي "المعتر" ضيّق الحيلة واسع الكرب الذي تلاحقه الابتلاءات بينما يجري خلف سراب السعادة، هو الأكثر حضورا والأكثر واقعية بالتأكيد.
 

لقد تكالبت على العربيّ كل أنواع الظروف التي له يد فيها والتي ليس له يد فيها لتشكل توليفة من المعاناة صعبة الاختراق، وُلد العربيّ حاملا إياها وورِثها من قبله أجيالٌ وأجيال. والمفارقة هنا أن الهوة الحضارية والفكرية الشاسعة بين العالمين تختصرها لغويا مجرد نقطة تضاف على حرف العين لتشكل الفرق بين الكلمتين، لكن فعليا فإن الفرق الذي تشكله بين المدلولين هو كالفرق بين الفاعل والمفعول به، الأول من وقع منه الفعل والثاني من وقع عليه الفعل، وشتّان بين الاثنين.
 

إن لم نتعلم كيف نتعامل مع واقعنا بتقبله مبدئيا بينما ندرس كيفية الخروج منه ثم نعمل على ذلك بشتى الوسائل الممكنة، فيجب أن ندفن فينا كل أحلامنا.

منذ قرون والعربي مفعول به وحياته مستباحة بالكامل، بدءًا من أقرب الناس إليه ومرورا بتعاملاته اليومية من تجار وأطباء وزملاء عمل وغيرهم، ووصولا للحكومات ومَن وراءها. لقد ألِف العربيّ معاناته واعتادها؛ رغبة منه في أن يشتري ما تبقى من راحة رأسه وقدرته على الاستمرار؛ فشعوره بأن لا أمل يرجى ولا سبيل قط للتغيير هو ما سيريحه من الوقوع في فخ التأمل الكاذب ويصون عقله المتعب من ألم التعامل مع المزيد من الصدمات.

أما بخصوص من يتحمل مسؤولية حالة "التعتير" هذه، فسواء كنّا من جماعة "نظرية المؤامرة وإصبع الاتهام إياه" أو من جماعة "نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا"، فنحن في نهاية الأمر شئنا أم أبينا في مركب واحدة، نحن كلنا "معترون" بطريقة أو بأخرى، ونعاني يوميا من تبعات الواقع المرّ على حياتنا، وإن بدرجات متفاوتة.

لن ينفعنا رش السكر على الموت ولن يوصلنا البكاء على الأطلال سوى لمزيد من الهاوية، إن لم نتوقف جميعنا عن لعبة الهروب من الواقع التي نلعبها، ونواجه واقعنا المعقد بألف عقدة هذا، فسيزداد الواقع تعقيدا على أطفالنا ليخنقهم.

إن لم نتعلم كيف نتعامل مع واقعنا بتقبله مبدئيا بينما ندرس كيفية الخروج منه ثم نعمل على ذلك بشتى الوسائل الممكنة، فيجب أن ندفن فينا كل أحلامنا؛ لأننا -وببساطة- لسنا أهلا لها. وأخيرا، إن لم ندرك أن ليس لنا سوى بعضنا كتفا نتكأ عليها ويدا تمتد لأخيها وعينا تحرس بنيها، فلندرك إذا أن واقعنا هذا هو فقط ما نستحقه، فكما قال الإمام الشافعي: (ما حك جلدك مثل ظفرك فتولَّ أنتَ جميع أمرك).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.