شعار قسم مدونات

اللهم عليك بالمهندسين والمهندسات

blogs- مهندس
كنت -وما زلت- أتخيل أن لقب المهندس دائما مقترن بالضرورة بالمختبرات والاختراعات والابتكارات والبحث العلمي ومشاريع التخرج التي يستحق كل واحد منها أن يتحول إلى شركة أو صناعة تساهم في بناء نهضة علمية حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتدفع البلاد والعباد للدخول إلى ميدان التنافسية العالمي، رغما عن أنف الظروف والفساد والاستبداد والظلم والضياع.
 

كنت -وما زلت- أضع الحمل الأكبر لتخلف الأمة ونهوضها على أكتاف المهندسين والمهندسات؛ لأن سباق العصر هو سباق التقنية والعلم والهندسة، هندسة العقول وهندسة الحقول، وهندسة المجتمعات، وهندسة الآلات.
 

كنت -وما زلت- أتخيل بأن المهندس إنسان يعرف ما يريد ويذهب حيث يريد، مليء بالأسئلة والحماس والطموح والأفكار والمشاكل التي لأجلها جاء إلى كلية الهندسة في محاولة الوصول إلى الحلول لتلك المشاكل التي تأكل رأسه، وليزيل شكوك تلك الأسئلة التي توقظه من منامه كل لحظة.
 

لماذا أصدرت دولة الاحتلال الإسرائيلي 16805 براءة اختراع، بينما سجل العرب مجتمعين في نفس العام فقط 836 براءة اختراع؟

كنت -وما زلت- أتخيل أن المهندس يعيش في عالم خاص، عالم المنطق والتساؤلات والفضول الذي يوصل إلى الفهم بأرقى مستوياته؛ لأنه مقترن بالعلم والأدلة والبراهين؛ ولذلك أتخيل بأن المهندس من أكثر الناس إيمانا في الأرض؛ لأن تركيبة دماغه معقدة ولا تقنعها غير الأدلة والمعادلات والأرقام.
 

وفي الفترة الأخيرة كلما التقيت بمهندس وحدثته عن دوره في صناعة المستقبل تكون إجابته مقترنه بالواقع الأليم للتعليم والجامعات وبالوضع المتخلف لكليات الهندسة. ويخبرني بأن الأمر ليس كما أتخيل، وبأن المشاريع والابتكارات التي ننتظرها من معشر المهندسين ليست كما أتخيل.
 

فكم هي كثيرة مشاريع التخرج الهندسية التي توزن بماء الذهب، ولكنها ذهبت أدراج الرياح. والسبب هو أن المهندس العربي يقع ضحية البحث عن لقمة العيش؛ لأنه مبرمج على ذلك ولا يجد من يتبنى له تلك الفكرة؛ ليجعلها مشروع حياته؛ ليعيش ويموت من أجلها، بمعنى آخر لا يوجد استثمار حقيقي لرأس المال البشري الهندسي والتكنولوجي العربي. ولكن بإمكان المهندس المبدع أن يعتمد على نفسه ويتجاوز الظروف والعقبات ويصنع هو الظروف لو كان صادقا في توجهاته وميوله للابتكار والإبداع.
 

كثيرة هي الأسئلة والأرقام التي تقهرني عندما أرى تلك الأعداد الهائلة من المهندسين العرب الذين يتخرجون كل عام في الجامعات. ولكن.. لماذا ليس عندنا أولئك المهندسون القادرون على تغيير المشهد ليصنعوا لنا أملا بمستقبل جديد؟
 

لماذا أصبح لدينا مهندسون فاقدو الإرادة. يذهبون إلى تخصصات هندسية قادهم إليها المعدّل، أو بحثا عن فرصة عمل مستقبلية ويتخرجون وهم لا يمتلكون المهارات التطبيقية الكافية، ولا يمتلكون مهارات سوق العمل الحقيقي، بالإضافة إلى عدم وجود شغف حقيقي ودافع ذاتي للابتكار والتطوير والاختراع في ذلك التخصص الهندسي الذي وصلوا اليه.
 

لماذا براءات الاختراع المسجلة عربيا لا تتجاوز حدود 0.1 بالمئة من براءات الاختراع عالميا؟ لماذا أصدرت دولة الاحتلال الإسرائيلي 16805 براءة اختراع، بينما سجل العرب مجتمعين في نفس العام فقط 836 براءة اختراع؟ لماذا لا يوجد بين الاختراعات العربية المسجلة ما يمكن تحويله إلى منتجات حقيقية تساهم في نهضة حقيقية للبلاد؟ لماذا 95 % من المشاريع الهندسية التي يتم تحويلها إلى مشاريع تفشل عندما تصطدم بالسوق، ولا تلبي احتياجات المجتمع الحرجة، فسرعان ما تنهار وتتلاشى؟ لماذا في أفضل حالاتنا نكون أسرى لواقع البحث العلمي النظري الذي لا يرتبط بالواقع العملي وبمتطلبات التنمية الحقيقية؟
 

ورغم كل تلك التساؤلات والمشاكل والعقبات، أود أن أختم ببعض الرسائل للمهندسين العرب:
أولا: التحدي الرئيسي على مستوى الدول العربية أمام النهوض العلمي والتكنولوجي هو مشكلتنا الاقتصادية، أو بمعنى آخر هو فشل السياسات الاقتصادية العربية التي تعتمد بشكل رئيسي على قطاع الخدمات فقط.. وحتى لو حاولنا الخوض في غمار قطاع الإنتاج والتقنية والصناعة فلا توجد مؤسسات بحثية ولا تعليمية ولا بنية تحتية تخدم هذا القطاع، ولكن تخيلوا حجم النقلة النوعية التي سنحققها لو تمكن المهندسون المبتكرون من تجاوز كل هذه العقبات، واعتمدوا على ذاتهم في توفير تلك الإمكانات ليقدموا للبلاد أفكارا محكمة وقابلة للنجاح، فلا سبيل أمامكم سوى الاعتماد على ذواتكم لبناء الأساس للانطلاق لتحويل أفكاركم إلى مشاريع حقيقية وملموسة.
 

وجدنا أنفسنا عالقين في الهواء، ولا سبيل أمامنا للعيش والنجاة سوى بالشهادة والعلم، فتشكل عندنا رأس مال بشري عظيم عنده قابلية للتعلم، ولكن ضمن حدود منطقة الراحة المقترنة بالوظيفة

ثانيا: التحدي على المستوى الشخصي، فنحن جميعا نتمنى ونريد أن ننهض ولكن عندما نكتشف بأن النهوض يحتاج إلى عمل وجهد وبحث وقراءة وتجربة وخطأ، فعندها نهرب إلى منطقة الراحة، وحتى في نمط تفكيرنا نهرب إلى تلك المنطقة حيث 90 % من الذين يؤمنون بالتغيير يرفضون التغيير؛ لأنه متعب جدا لهم، ويجبرهم على تغيير نمط حياتهم التقليدي والمريح.
 

ثالثا: رأس المال الرئيسي لأغلب الدول العربية هو رأس المال البشري، حيث لم يتوفر لدى العديد منا على مدار السنوات الماضية إمكانات مادية ولا بترول؛ ولذلك وجدنا أنفسنا عالقين في الهواء، ولا سبيل أمامنا للعيش والنجاة سوى بالشهادة والعلم، فتشكل عندنا رأس مال بشري عظيم عنده قابلية للتعلم، ولكن ضمن حدود منطقة الراحة المقترنة بالوظيفة والراتب الثابت.
 

رابعا: اجعلوا رأس المال النقدي الذي تحتاجونه لأفكار مشاريعكم واختراعاتكم هو آخر اهتماماتكم، فلو تمكنت من عمل فكرة قوية ودراسة محكمة ودقيقة وخطة تسويق ذكية فحتما سيغامر معك المستثمرون، وسيوفرون لك المال الذي تريده؛ لتنطلق في بناء مستقبل عظيم لك ولوطنك ولأمتك.
 

ما زال هناك أمل كبير وحمل أكبر وأمانة أعظم ننتظرها منكم يا معشر المهندسين، رغم كل عتابي لكم، ورغم كل تقصيركم وتهاونكم في النهوض بمستقبل البلاد والعباد. ولكنني ما زلت أقول: "اللهم عليك بالمهندسين والمهندسات وأرنا فيهم عجائب رحمتك".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.