شعار قسم مدونات

ويسألونك عن الحياة

blogs- الحياة
يبدأ العد العكسي لحياتك متزامنا مع صرختك الاحتجاجية الأولى في وجه الحياة.
بمجرد عبورك من الظلمات الثلاث إلى ظلمات الدنيا، بعد رحلة امتدت لتسعة أشهر، يبدأ العد العكسي لحياتك، وينخرط الجميع في حساب أيامك باستثناء أمك. يبدأ العد، العد العكسي لحياتك، مع أول زائر جاء ليطمئن على صحة والدتك، بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تدخل قائمة الشهيدات، شهيدة الرحم، وأي معركة أكبر من المخاض؟!

مخاض انبثاق الحياة من الحياة
أول زائر يطرق غرفة المستشفى يسأل عن توقيت ولادتك، بدون ما يشعر وكأنه يستعجل عودتك من حيث أتيت، وهكذا مع توالي الزوار يتكرر السؤال عن توقيت ولادتك، ولو كان أحدهم يعلم الغيب لسألوا عن موعد رحيلك وأخبروك به، وأقاموا حفلا على شرف مأتمك.

الحلم كلما حورب كلما زادت إرادة معتنقيه لتحقيقه، الحلم يدفن مع جسدك يموت بموتك، ولا يرفع عنك إلا في حالة الجنون، الحلم لا يباع ولا يشترى، سواء كان يدا بيد أو صاعا بصاع.

بعد أسبوع من قدومك للحياة، بعد عناء تسعة أشهر من السفر من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، تحملته عنك والدتك، سيسألون عن اسمك، وبعدها سيتأكدون بأنفسهم من أيامك وهل استوفت سبعة أيام حسوما وهو يوم تسميتك.

تحبو الأيام إلى اليوم المشهود، وتحبو معها أيضا بدون ما تشعر.
ما إن تتعلم كيف تقف على رجليك وتمشي، سيسألون عن موعد إعذارك، عن موعد إعلان رجولتك، في انتظار المستقبل للسؤال عن موعد فحولتك.

يوم إعذارك، سيزورونك من باب المداراة لأهلك إن كنت يتيما مثلي، من باب ما جرت به العادة؛ سيضعون في جيبك بعض الدريهمات لتخزنها في ذاكرتك، لكي تحكي عنها يوم يشتد صلبك لأترابك وأقربائك.

سيسألون عنك، يوم يصلهم خبر دخولك للمدرسة، ومن نفس الباب باب المدارة سيتصلون بكم هاتفيا، وربما يتحملون مشقة الانتقال إلى البيت ليؤدوا طقوس الاطمئنان عليكم، في صورة مزيفة، وكأن قلوبهم تتقطع كمدا عليكم.

نسيت أن أخبركم بطقوس الاطمئنان، منها كما أذكر مناقشة تاريخ ميلادكم وإن كان استوفى الأجل القانوني للتسجيل بالمدرسة العمومية، ونسي هؤلاء المتهافتون على حطام الدنيا أنك مسجل من يوم الصرخة الأولى بمدرسة الحياة "الأم".

بين الفينة والأخرى، سيعاودون الاتصال والسؤال عنكم، إذا وصلهم خبر عنكم بنوعيه خيره وشره، وليس بين الأقرباء قريب، فكلهم بعيدون عن قلبك باستثناء أمك، سيسألون عنك ليس لسواد عينيك ولا ليتمك صدقني، سيبحثون عنك وسيجدون حتى يجد جدهم، ليعزموك لزفافهم، أو بالأحرى ليمثلوا بك تمثيلية على خشبة أعراسهم، وليصفق لك مدعووهم، وأنت في خضم هذا كالريشة في مهب الريح أو كالشراع بين يدي بحارة، داهمهم ريح عاصف من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت أبصارهم، فأصبح ديدنهم اليابسة لينجوا بأنفسهم، بدل الالتفاف لخيرات البحر.

سيسألون عنك، إذا صعدت سلما في سماء الدنيا، أو مشيت فوق الماء، تشابهت أسئلتهم وما أخفت صدورهم أعظم، وكلما حزت إلى رصيدك المعرفي فنا من فنون الحياة ومهاراتها، تأكد أنهم سيسألون عنك وسيجدون في ذلك، ليظهروا أنهم جزء من نجاحكم، و في الأصل هم جزء من أحزانكم، بعضها صنعوها أمام أعينك وسقوها بجهلهم وتهافتهم على الدنيا، وأخرى صنعوها من وراء حجاب.

كم من حلم طفل أجهض في مهده، بسبب سرعة سائق متهور داس على الأبوة بكل ما أوتي من تهور، فأتى بتهوره على أحلام أسرة بكاملها.

ستبقى أسئلة "لا معنى" لها تتردد على مسامعك حتى تتعود عليها.
لن يسألوك سؤالا واحدا، بل لن ينبسوا ببنت شفة عن أحلامك، عن حلمك الذي يولد معك مع الصرخة الأولى، عند استشرافك لظلمات الدنيا قادما من الظلمات الثلاث.

لن يسألوك هذا السؤال لأن الحلم ليس كالعمر له صرخة، بل له أمل ويقتات على التفاؤل، ولأنه -أي الحلم- لا يعذر ولا يتزوج، نعم يحبو ويمشي مثلك تماما، ولكن لن يسألوك عنه، لأنهم تعودوا أن يسألوا عن الأعراض، أما الجوهر وكنهه فلا يقيموا له وزنا لأنهم عباد مظاهر زائفة، كمن يصنع تمثالا من الحلوى ويأكله.

الحلم كالطائر الذي يضرب بجناحيه عاليا عنان السماء محلقا باحثا عن لقيمات يسد بها جوف صغاره، وقد يأوي إلى عشه حاملا بين مخالبه قوتا، وفي طريق عودته ربما يقنصه قناص، فيفسد حلم الطائر وفراخه برصاصة، وكم من حلم طفل أجهض في مهده، بسبب سرعة سائق متهور داس على الأبوة بكل ما أوتي من تهور، فأتى بتهوره على أحلام أسرة بكاملها.

هو كألوان الطاووس -أي الحلم- إذا ذهب ريشه ذهب عنه جماله، وإذا بقي يمشي مختالا مرحا في مشيته، فالحلم في ريشه كالطائر وليس في مشيته، الحلم كلما حورب كلما زادت إرادة معتنقيه لتحقيقه، الحلم يدفن مع جسدك يموت بموتك، ولا يرفع عنك إلا في حالة الجنون، يسقط عنك مثل تكاليف الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادة، الحلم لا يباع ولا يشترى، سواء كان يدا بيد أو صاعا بصاع وإن اختلفت مكاييل حلمك فلا تبعه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.