شعار قسم مدونات

مع الدولة حتى الرصاصة الأخيرة (1)

blogs - Egypt Revolution

بدأت موجات الربيع العربي الأولى كحراك سياسي تفاعلي مع الواقع، حراك غاضب من عمليات الإفقار والتجهيل المستمرة وإغلاق المجال السياسي، وسيطرة الدولة على المجالات المجتمعية، إنه أكثر من حراك قائم على فلسفة معينة أو يحمل فكرًا أو أيديولوجية يُسعى إلى تطبيقها.

الثورة المصرية كفعل كانت تعبيرًا عن أزمة مجتمعية حادة ضربت المجتمع ووصل الحال إلى طريق مسدود، فكانت هي ذلك الانفجار الكبير الذي يعيد ترتيب المشهد من جديد، وينشأ على إثره جدل مجتمعي فكري ضخم، فيعيد أفكارًا جديدة إلى الساحة، ويعزل أفكارًا أخرى ويترتب عليه أنماط فكرية جديدة، وهي في ذات الوقت تخلق صراعات بين طبقات المجتمع نفسها من جهة وبين المجتمع والدولة من جهة أخرى، فربما الثورة المصرية -تحديدًا- حين قامت في بادئ الأمر ظنّت نفسها في مجرد مواجهة ضد أنظمة قمعية محلية الصنع، ممثلة في شخوص الحاكمين وحاشيتهم في البلاد أي أنها فقط في مواجهة زمرة فاسدة يجب التخلص منها، معتقدة أن هذا الخلاص هو سبيل النجاة من الوضع القائم حينذاك.
 

الخيال لم يسلم من سيطرة هذا المنتج، نعني الدولة، فلا تجد خيال أحدهم يشطح خارج الإطار المحدد له، أو خارج إطار الدولة، لم يعد يفكر أحدهم في أن يُخرج الدولة من اللعبة كلها

لكن وإن كان ذلك جزء حقيقي من المشهد إلا أنه ليس المشهد كله، فمع استعار المعركة وجدت الثورة نفسها في مواجهة ما يمكن تسميته بـ "المنظومة العلمانية الغربية"، وقبل أن تنتفض من مقعدك وتتهمني بإحالة فشل الثورة إلى نظرية المؤامرة التي صارت محل سخرية من الجميع، عليك أن تعلم أن الماكينة التي أتحدث عنها ليست وحشًا خياليًا أو وهمًا أعيش في أروقته، وإنما لها ممثل أصيل في بلداننا، وهي الدولة الحديثة بأسرها وليس فقط ما يطلق عليه "الدولة العميقة".

 

هذه الماكينة في بلادنا تستند إلى بنية مليئة بالمتناقضات المجتمعية وحالة من الخواء السياسي، ومصممة مؤسسيًا لتكرّس حالة الظلم والاستعباد للشعوب، هذه البنية يمكن بسهولة ربط بدايتها تاريخيًا بحقبة الاستعمار الغربي وربط وجودها وأهدافها بأهدافه؛ إذ إنها تتحرك في مجاله وتدور في دوائره، هذه البنية تخللت وتجذرت داخل الأمة حتى تمكنت منها وصارت تدور في فلكها وتفكر في إطارها من دون وعي، حتى إنها لم تعد قادرة على تخيل أي واقع خارج المجال التي تخلقه هذه الماكينة، ماكينة لم تسيطر فقط على عقول العامة، وإنما تسيطر أيضًا على أولئك الذين يسعون وينادون لمواجهة المشروع الاستعماري.

وعندما نتحدث عن "المشروع الإستعماري" فإننا لا نتحدث عن مجرد آليات أو توجهات بعينها يقوم بها رأس الدولة معلنًا تبعيته للغرب، وإنما نتحدث عن فلسفات وتراكمات فكرية وثقافية وترتيبات مجتمعية وأنماط مؤسسية تقوم عليها التجمعات البشرية بطيفها الواسع، وكل هذه التراكمات والترتيبات لم تنشأ في بلداننا ولم تستق شيئًا من ثقافتنا، وإنما نشأت وتطورت في الغرب، ومن ثم تم استيرادها وتسكينها في بلداننا دون أية عملية مراجعة أو تنقيح. أي إنها تستعمر الأرض الإسلامية والعربية لتزرع فيها أفكارها.

عملية النقل أو الزرع هذه لها من التجليات الكثير، لكن يبقى التجلي الأبرز هو "الدولة الحديثة" أو ما يطلق عليه في الغرب بالـ "NATION – STATE"، الدولة التي كانت أحد أبرز الأفكار التي ظهرت على السطح في عالم ما بعد الربيع العربي، وكانت طرفًا أساسيًا في جل الصراعات سواء، وكانت لها خطوط تماس واضحة وعريضة مع الواقع، اجتماعيًا وسياسيًا وحتى "بيولوجيًا"، أي باستخدامها واحتكارها للعنف والسلاح.

عندما نتحدث عن الدولة فنحن لا نتحدث فقط عن تلك المؤسسات عديمة الفائدة أو المباني القبيحة أو مجموعة الموظفين المرتشين، إنما نتحدث عن فلسفة كاملة أنشأت هذا القبح في بلداننا، الفلسفة يفرض على إثرها سياسات عامة وقيم عليا ورؤى للعالم والفرد.

 هذه الدولة التي نتحدث عنها لم تنشأ هكذا من الفراغ، خارج الزمان والمكان، وليست أمرًا بديهيًا أو فطريًا بل إنها ببساطة منتج غربي، أي إنها نتاج تجارب وخبرات وأزمات وثورات وسياقات غربية، ولكن الأمر المهم للغاية أنها تعبر عن القيم التي انتصرت في الغرب، وتعبر عن مصالح أولئك المنتصرين وتطلعاتهم.

 

نجحت الدولة بامتياز في مهمتها الأولى والأساسية، ألا وهي السيطرة على الفكر والعقل والخيال العربي والإسلامي حتى إنه صار يتم تجاوز عمليات الإخلال بالعقد الاجتماعي المستمرة

وهنا يجب التأكيد على أن هذا المنتج تم نقله لنا وترسيخه في عالمنا عبر عدة آليات يبقى أبرزها على الإطلاق، الاحتلال المباشر في العقود الماضية أو عن طريق الاحتلال بالوكالة كما هو حادث الآن، حيث إن عملية الاحتلال تلك لم تكن مجرد عملية احتلال تهتم بالموارد الاقتصادية والبشرية فحسب، بل إن أحد محاورها الرئيسية كانت الاحتلال الفكري و"تغريب" النفوس العربية والإسلامية وخلعها من جذورها، إضافة إلى بسط أسس الحضارة الغربية وقيمها في العقل والوعي العربي والإسلامي، فينتج عن هذا سيطرة شبه كاملة على العقول وتغريب لما هو إسلامي أو عربي وصبغه بصبغة غربية فيصبح عديم الطعم واللون.

 

 حتى الخيال لم يسلم من سيطرة هذا المنتج، نعني الدولة، فلا تجد خيال أحدهم يشطح خارج الإطار المحدد له، أو خارج إطار الدولة، لم يعد يفكر أحدهم في أن يُخرج الدولة من اللعبة كلها، بل على العكس، تجد أكثر المتضررين من الدولة يدعون إلى الحفاظ عليها وعدم هدمها، إذ لم يَعد يتصور وجود حياة دون الدولة، تم سلب المجتمع كل قوته فصارت الدولة هي الكل في الكل.

وإن كان يعاب على الدولة في بلادنا أنها تخل بالعقد الاجتماعي ولا تؤدي وظائفها الخدمية -إن صح التعبير- على أكمل وجه فإنها قد نجحت بامتياز في مهمتها الأولى والأساسية، ألا وهي السيطرة على الفكر والعقل والخيال العربي والإسلامي حتى إنه صار يتم تجاوز عمليات الإخلال بالعقد الاجتماعي المستمرة ويتم تجاوز "توحش" المتفاقم؛ لأنه لم يكن من الممكن تصور أية حياة أو أي نوع من أنواع الوجود خارج إطار الدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.