شعار قسم مدونات

عادي!

تسلق
أذكُرُ أننا ضحكنا بعد أن أمّلتنا معلمتي بسرد قصة قصيرة لنا، وقد كنّا حينها في عمرٍ كبيرٍ نوعًا ما، لتكون القصة بعدها: "كان يا مكان، كان في واحد اسمه "طفشان"، سألته زوجته: ماذا تحب أن تأكل على الغداء؟ قال: عادي. سأله ابنه: بابا هل تحبني؟ أجاب عادي. في قهوة القرية، والناس مشغولون بالحديث في قضاياها وأمرِ العامّة، قالوا له: رفعوا الأسعار، قال عادي. يا طفشان احترقت دكانة أبو علي، قال عادي. يا طفشان سرقوا بيتك..بيتك انسرق! قال عادي" ثم غابت ضحكتنا شيئًا فشيئًا مع تغيُّر نبرة حديث المعلمة عندما عَلَت قليلاً فقالت: " إياكم وكلمة عادي، لا في المشاعر داخلَكُم، ولا في ما يُحيطكم، من قَبِل بِ "عادي" في صغير الأمور سيقبلها في كبيرها، هكذا إلى أن يخسر كلّ شيءٍ حتى إنسانيته، وجمال روحه التي بين جنبيه".
إلى الأشخاص "العاديين" .. الذين لا يحرّكهم شعور، ولا يوقظهم خبرٌ أو مشهد، إلى أولئك الباردين في المشاعر والعلاقات، الباردين في ردّات الفعل، إلى العاديين الذين لم يحلُموا بأفضل مما هم عليه، إلى الذين لا يحملون في قلوبهم حبًا، ولا يقبلون عذرًا، إلى أولئك الذين لم يقبلوا بالفشل، ولم يخوضوا تجارب جديدة .. كلّ ذلك خوفًا وجُبنا. إلى أصحاب الكلام العاديّ، والمواقف العادية والتجارب العادية.

إلى "طفشان" هذا الزمان:

يجب أن نقتنع تمامًا أنَّ مُقابلتنا للأمور بأقلّ مما تستحقُّ هو ليس حلاً لتبسيطها، ولا تسخيف الحقائق سبيلٌ لدحضها أو تغييرها؛ علينا حسنُ التعامل معها وكفى

لقد خلق الله الإنسان بتركيبةٍ عظيمةٍ متقنةِ الصنع، بما يحويه هذا المخلوقُ من مشاعرَ أولاً، ثمّ ما حباه الله به من قدرةٍ على ترجمتها لأعمالٍ وأقوالٍ وما إلى ذلك.. لذا، فلن يكون التجرّد من تلك المشاعر أو تَرجماتِها إلّا موتًا لهذا المخلوق، وتفتيتًا لكينونته، وخلافًا لفطرته التي فطره الله عليها. إذ ليس طبيعيًّا أن ترى ما يُحرّك الجماد ولا يتحرك فيك ساكن، وما يبكّي الحجر ولا تنساب من عينيك دمعة، وما يَشْغَل الناس كلّها ثم لا تجد لك فيه رأيًا، أو أن تُهدى إليك مشاعر متّقدة، ينبغي أن تُقابل بمثلها -على الأقل- ثم لا يُحرّك ذلك قلبك، ولا حتى بأن تردّ بكلمة طيبة!

يجب أن نقتنع تمامًا أنَّ مُقابلتنا للأمور بأقلّ مما تستحقُّ هو ليس حلاً لتبسيطها، ولا تسخيف الحقائق سبيلٌ لدحضها أو تغييرها؛ علينا حسنُ التعامل معها وكفى. فلا ينبغي أن تَفقد الدهشة عندنا قيمتها، ولا أن نألَفَ الأمور، ولا أن نُهمل الانبهار سبيلاً للتعبير. لقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم شعور طفل مات عصفوره، ولم يقل بأن الموضوع عاديّ، وخاطب مكة التي هي شيء معنويّ غير ملموس وأخبرها بأنها أحب بلاد الله إليه، ولم يَبْخس أحدًا أشياءه مهما كانت، لقد أعطى -صلى الله عليه وسلّم- في المواقف رأيًا، وشارك الجميع، وشاورهم، وأولى أهمية لأمر العامّة، ولم يشهد أيّ أحد منه ردّ فعل أقل اشتعالاً مما توقّع.

(عاديٌّ) في المعجم تعني؛ "بسيطٌ مألوفٌ معهودٌ غيرُ متجاوز عامّة الناس".. ولا أظنُّ أنّ في أحوالنا اليوم ما هو بسيط، ولا في مشاعرنا ما يُؤلفُ، إذْ بذلك تفقدُ قيمتها، ولا حتى أحلامنا معهودة فدائمًا ما تفاجئُنا بجديد. ذروا عادي وأخواتَها لما هو حقًا عاديّ من سفاسف الأمور التي نعطيها حجمًا أكبر منها، واصطحبوا في طريق الحياة الصعب مشاعركم وأقوالكم وآراءكم وأحلامكم؛ فهي المُوجّه والمُنبّه، والعدّة والعتاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.