شعار قسم مدونات

الموت وفلسفة التصميم

die
يسعى الإنسان للتعايش مع حتمية الموت، على الرغم من المعضلة التواصلية التي يخلقها، باعتبار أن طريقه ذو اتجاه واحد لا رجعة فيه: فالموتى لا يعودون ولا يرسلون للأحياء أي معلومات تحكي عن تجربتهم. ومما يسهل عملية التعايش، المنطق الذي يقوم عليه الموت والقاضي بضرورته لاستمرارية الحياة (بمعنى إتاحة الفرصة للحيوات الجديدة حتى تأخذ نصيبها من الدنيا). فلولا الموت لضاقت الأرض بمن عليها وفيها من كائنات حية متكاثرة، ولاستحالت سبل العيش واختل النظام.

ولأن الموت حتمي، إعتبر قتل النفس ظلما أعظم جريمة يمكن أن يرتكبها الإنسان، بما يترتب عنها من تبعات. يتخذ طريق الموت شكل خط زمني يبدأ بتكوّن الجنين في الرحم، ويستمر في احتمالات مفتوحة دون معرفة أين يتوقف (لحظة الموت) وتصير الحياة كلها امتحانا تتعادل فيه فرص النجاح مع فرص الفشل. كيف يتعايش الإنسان مع الموت؟ ليس من خلال الاستسلام وانتظار المصير، بل من خلال توظيفه في الحصول على المعينات التي تجعله يحافظ على استمرارية الحياة أطول فترة ممكنة. ولعل مَلَكَة التصميم التي وهبها الله للإنسان، أبرز دليل على تعايش الإنسان مع الموت والاستفادة من مفهومه وتعريفاته المتعددة وتوظيفه في الحياة.

فلسفة التصميم:

إن فلسفة التصميم تقوم على التضحية ببعض العناصر من خلال موتها، أو إماتتها للحصول على شكل جديد يثري الوجود ويعزز إبراز قيم الجمال الكامنة فيه.

يقوم التصميم على تنظيم الأشياء الملموسة وغير الملموسة، من أجل تقديم الجديد الذي يختلف عن مكوناته الأولية. وتقتضي عملية التنظيم التضحية ببعض العناصر، أو تغيير شكلها أو خصائصها أو انتزاعها من بيئتها. هكذا تتسبب عملية التنظيم هذه في موت بعض العناصر (كقطع الأشجار أو ذبح الحيوانات)، أو تمثيل مفهوم الموت (كالبتر والخرط والحرق والخلط والمزج والذوبان) على عناصر أخرى. ويشير مفهوم الموت هنا إلى تغيير طبيعة الأشياء بحيث لا يمكن أن تعود إلى سيرتها الأولى بفعل اختلاف السياق الزماني والمكاني واختلاف المكونات الجديدة (مثل البذرة التي أصبحت الشجرة ثم خشبا ثم طاولة ثم رمادا بعد إحراقها).

كل عملية تصميم تتضمن تضحية ببعض الأشياء من أجل الحصول على الشكل الجديد أو الهيئة الجديدة، ويحدث هذا في الواقع الملموس (كالنحت وتصميم الأثاث والملابس وغيرها)، أو في الواقع الافتراضي (كتحجيم الصورة في برمجية الفوتوشوب بإزالة أطرافها). هكذا يمكن القول إن فلسفة التصميم تقوم على التضحية ببعض العناصر – من خلال موتها أو إماتتها – للحصول على شكل جديد يثري الوجود ويعزز إبراز قيم الجمال الكامنة فيه. أي أن التصميم غالبا ما يأتي بالموت للكائنات الحية (الحياة بمفهومها الحقيقي أو المجازي) ثم ينتزع الحياة من الموت أو يستولدها منه ويقدمها في شكل مولود (أو إبداع) جديد. وخلاصة هذا الأمر: في الموت حياة.

تجليات الموت في التصميم:

يمكن النظر في كافة التصميمات التكوينية التي تُخَلِّف جزءا من المادة الخام كنفايات لا يمكن تدويرها في التصميم ذاته، أو تتعرض لدورة تدويرية معقدة قبل أن تصبح صالحة للاستخدام من جديد، يمكن النظر إليها كتوظيف للموت من أجل الحصول على تصميم جديد.

أينما وجد التصميم فثمة تجليات للموت سواء بمدلوله الحقيقي أو المجازي. وهنا بعض الأمثلة على تجليات الموت في بعض المجالات التصميمية سواء الخَلقِية أو التصنيعية.
1. تقوم عملية النمو في الكائنات الحية على موت الخلايا القديمة لتحل محلها خلايا جديدة تلائم العمر الجديد بكيفية مستمرة، إلى أن يكتمل النمو، فيتم تعويض الخلايا التالفة بسبب تدخلات خارجية (كالأمراض أو الإصابات)، أو لأسباب داخلية (انقضاء العمر). كما أن عملية تشكّل أعضاء الجسم (كالأصابع) أو تفرعات النبات تقتضي موت بعض الخلايا حتى يتم الفصل بين الأعضاء أو الفروع. وسواء انطلقنا من بداية خلق الكائنات الحية أو طرق تكاثرها، يمكن أن نرصد تجليات الموت في مراحل الخلق أو التكاثر مقترنة بالعملية التصميمية.

2. إن الضوء الطبيعي الذي يصلنا من الشمس، هو نتاج عملية الاندماج النووي الذي يحدث لذرات الهيدروجين (أي موتها) لينتج عنه غاز الهيليوم. كما أن وراء كل عملية احتراق تصميم جديد، سواء اتخذ شكل ألعاب نارية أو شمعة. وكذلك من أمثلة ما تجود به الطبيعة في تبيان علاقة الموت بالتصميم. ما يحدث للسحابة عندما تصبح مزنة ماطرة فتمطر وتكون قد تخلت عن جماليتها كسحابة لتتحول إلى جمالية القطرات أو حبات البَرَد المتساقطة.

3. يعتمد التصميم النحتي على خرط بعض الأماكن في المادة الخام وصولا إلى الأشكال التي يتكون منها التصميم. وفكرة الموت هنا تكمن في حرمان المادة المخروطة من البقاء في أماكنها الطبيعية، إذ غالبا ما يكون مصيرها الاستغناء عنها، أو إعادة استخدامها (تدويرها) في سياق آخر. ويقوم مفهوم الصقل على التخلص من الزوائد والشوائب حتى يأخذ التصميم شكله النهائي وملمسه الأكثر نعومة.

4. تلجأ التصميمات التكوينية إلى التفصيل القائم على القص والمواءمة واللصق، الأمر الذي يؤدي إلى وجود بقايا من المادة الخام التي لا مكان لها في التصميم، وكأنها تُضحّي من أجل المولود (التكوين) الجديد. فضلا عن كون عملية قص النسيج تحمل في طياتها موتا يحدث ضمن مسار القص. هكذا يمكن النظر في كافة التصميمات التكوينية التي تُخَلِّف جزءا من المادة الخام كنفايات لا يمكن تدويرها في التصميم ذاته، أو تتعرض لدورة تدويرية معقدة قبل أن تصبح صالحة للاستخدام من جديد، يمكن النظر إليها كتوظيف للموت من أجل الحصول على تصميم جديد.

وأبرز مثالين هما: التصميمات النسيجية وتصميمات إعداد الطعام وتقديمه. أما في التصميمات الرقمية الافتراضية، فإن مفاهيم كالخلفية والواجهة والتحجيم والدمج والاستمرارية، تعزز فكرة التصرف في المادة الخام (سواء كانت صور أو رسومات تم تقطيعها، أو أشكالا أساسية تم تحويرها أو دمجها) وصولا إلى تكوين جديد يختلف عن مجموع عناصره (كما تقول نظرية الجشطلت).

التصميم وثنائية الموت-الحياة:
عندما ننظر في الدفق الجمالي والإمتاع الكبير الذي يجلبه التصميم للإنسان – وهو الكائن الذي جُبِل على تذوق الجمال – علينا أن ننتبه إلى ثنائية الموت والحياة الكامنة فيه. وهذا يتطلب إدراك العلاقة التكاملية القائمة بين هذه الثنائية، والتجاور القائم بينهما. فلو شبهنا التصميم بالعُملة، لكان الموت أحد وجهيها والحياة وجهها الآخر.

إن التصميم – من هذا المنظور – يقربنا إلى فهم حقيقة الموت وحقيقة الحياة، ويدعونا إلى تأمل قوله تعالى في سورة الملك: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، لكي نفهم كنه الموت ونتعاطى معه بواقعية وندرك فوائده وأهميته لحياتنا، خاصة وأن الحياة تعقب الموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.