شعار قسم مدونات

الإلحاد في مصر (1)

A minaret of a mosque is seen beside a church in Cairo February 23, 2013. Egypt's President Mohamed Mursi will modify the dates of upcoming parliamentary elections after requests from Christian lawmakers to change them, the speaker of parliament's upper house said on Saturday. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh (EGYPT - Tags: POLITICS CIVIL UNREST RELIGION)
يتعيَّن دائمًا على الباحث في أيِّ ظاهرة من الظواهر الإنسانيَّة أن يبتعد عن "التهويل" و"التهوين" في بَحثه وعَرضه للظواهر الإنسانيَّة، وقد سبق لمرصد الفتاوى التكفيريَّة التابع لدار الإفتاء المصريَّة إصدارُ تقرير في نهاية العام الميلادي 2014 يرصد فيه أسبابَ تزايد ظاهرة الإلحاد بين الشباب في الدُّول الإسلامية، لا سيما الدول التي تمرُّ بمتغيرات سياسيَّة واجتماعية كبيرة، وأشار إلى أنَّ مصر هي الدَّولة الأعلى عربيًّا في الإلحاد بـ 866 ملحدًا!

وعند الحديث عن الإلحاد في مصر وهي دولة من أكبر الدُّول العربية والإسلامية، بل وهي بلد الأزهر الشريف -الذي يعدُّ من أقدم الجامعات الإسلامية في العالم – فهو أمر غريب! بل وعجيب لا تقبله القلوبُ قبل العقول!
 

وبعيدًا عن الإحصائيَّات التي سبق وأن تداولَتها وسائل الإعلام المختلِفة نقلاً عن بعض المعاهِد والمراكز مثل: مركز تحالف الإلحاد الدولي، ومعهد غالوب الدولي "WIN – Gallup International" مرورًا بما رسمَته صحيفة "الواشنطن بوست" عن خارطة الإلحاد في العالم، لأنَّ هذه الإحصائيَّات لم تَسلم من النقد والأخذ والردِّ، ورغم "قلَّة" عدد الملحدين  -في مصر- إلاَّ أنَّ الإلحاد بدأ يَظهر ويطفو على السَّاحة المصريَّة عبر الشبكة العنكبوتيَّة وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، بل وفي بعض المبادرات الفكريَّة والشبابيَّة! الأمر الذي استرعى الانتباه نحوه باعتباره "ظاهرة" لن نفرط في المبالَغة في حجمها، ولكنَّنا أيضًا لن نتجاهل خطورتَها على سلامة مجتمعنا وإيماننا.
 

العلاقة بين الدِّين والعلم تختلف باختلاف الدِّين! فالعلاقة بين الإسلام والعِلم علاقة طرديَّة، كلَّما ازداد الإنسان علمًا ازداد إيمانًا بالله.

فلقد صارت هذه الظاهرة مقلِقة -بحقٍّ- لا سيما في الأوساط الشبابية، ويَعرف ذلك كلُّ من له اطلاع وممارَسة في العمل الثَّقافي والفِكري والتنموي، ورغم أنَّ الإلحاد بمدارسه وتيَّارته لا يعدُّ أمرًا غريبًا فقط على مصر الإسلاميَّة، ولكنه غريب حتى على النَّفس الإنسانيَّة! فلم يُعرف إنسانٌ -مهما كان جنسه أو عِرقه- إلاَّ وهو متعبدٌ ومتدين بدينٍ أيًّا كان هذا الدِّين، يَشهد لذلك قولُ المؤرِّخ الإغريقي بلوتارك: لقد وجدتُ في التاريخ مدنًا بلا حصون، ومدنًا بلا قصور، ومدنًا بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدًا مدن بلا معابد!
 

ونحن سنحاول في هذا الصَّدد أن نلقي الضوءَ على "بعض" أسباب ظهور الإلحاد في مصر، وهي أسباب، منها السياسيَّة ومنها الاجتماعيَّة ومنها النفسيَّة، على أن نُرجئ الحديثَ عن سبل مواجهة هذه الموجات في موضع آخر بمشيئة الله تعالى.
 

من أسباب ظهور الإلحاد في مصر:
1- أسباب سياسيَّة للإلحاد: شهدَت مصر خلال السنوات الأربع الأخيرة مجموعةً من المتغيرات السياسيَّة والاجتماعيَّة، وانتقلَت بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير .. من حالة النقيض إلى حالة النقيض! ولا نقصد بهذا الخروج من حالة الإيمان إلى الكُفر، ولكننا نقصد الخروج من ظلمات الاستبداد إلى آفاق الحريَّة! والتي وصلَت في فترة من الفترات إلى حريَّة مطلَقة ورغبة في الثَّورة على الثوابت أيًّا كانت هذه الثوابت، وفي مقدِّمتها يأتي الدِّين! وقد ذكر بعض الباحثين أنَّ هذه الموجات الإلحاديَّة تجتاح المجتمعات في الفترات التي تعقب الثورات، ودلَّل على ذلك ببعض الحوادث التي حدثَت بعدالثورة الفرنسيَّة والثورة البلشفية.
 

ثمَّ ساهمَت المتغيرات السياسيَّة التي حدثَت في مصر على تزكية نيران شيطنة الإسلاميِّين، ووصفهم بالتطرُّف والإرهاب، ونحن بطبيعة الحال لا نزعم أنَّ الإسلاميين قومٌ معصومون من الخطأ، ولكنَّهم بشَر يصيبون ويخطئون، فضلاً عن بعض التضييقات التي يتعرَّض لها الدُّعاة، الأمر الذي أدَّى إلى (تجفيف) المنابع الدعويَّة، حيث إنَّ الدَّعوة الإسلاميَّة تعتمد بشكل كبير في مصر على جهود كثيرٍ من الدعاة المتطوعين، ممَّا أدَّى إلى إحداث (فراغ) كبير في الساحة الدعويَّة تاركة تيَّارات التغريب والإلحاد تعمل في الساحة الفِكرية دون أن تجد من يتصدَّى لها.
 

2- الانصراف عن الدُّعاة وتحطيم القدوات الكبار: أدَّى انقسام المشهد المصري إلى فريقين: مع أو ضد! والوصول إلى حدِّ ما يُعرف بالصِّراع الصِّفري! ولا تُحسم مثل هذا النوع من الصراعات إلاَّ بالقضاء على الطَّرف الآخر! وتبعًا لذلك انقسم الناسُ نحو العلماء والدعاة، وفقًا لتأييد العالم أو الدَّاعية لموقفه من الأحداث! ممَّا أدَّى إلى الإعراض عن السماع أو التعلُّم من الدُّعاة إلى الله.
 

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- "ثلاث يهدمنَ الدِّين: زلَّة عالِم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"، وقال سفيان بن عيينة "تعوَّذوا بالله من فِتنة العابد الجاهل، وفتنة العالم الفاجر، فإنَّ فتنتهما فتنة لكلِّ مفتون". وأدَّى هذان السببان إلى انصراف الناس عن بعض الدُّعاة، أو صُرف بعض الدعاة عن الناس!
 

استوردَت تيارات التغريب "داءَ" الصراع بين العِلم والكنيسة وعمَّمتها على كلِّ الأديان! ثمَّ استوردَت "الدواء" الشَّافي من هذا الصراع ونقلَته إلى المجتمعات الإسلامية.

(3) التعالم الكاذب: العلاقة بين الدِّين والعلم تختلف باختلاف الدِّين! فالعلاقة بين الإسلام والعِلم علاقة طرديَّة، كلَّما ازداد الإنسان علمًا ازداد إيمانًا بالله، وقد قال تعالى "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" فاطر: 28، وعدَّ العلماء النظرَ في آيات الله في خَلق الكون سببًا لزيادة الإيمان بل سببًا في وجوده! وسموا هذا الأمر بـ "دلالة الآفاق"، قال تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" فصلت: 53.
 

بينما العلاقة بين الكنيسة الغربية والعِلم علاقة عكسيَّة! فلقد شهدَت أوروبا صراعًا مريرًا دمويًّا بين الكنيسة والعلماء، ولم يتوقَّف هذا الصراع إلاَّ عند بداية النهضة العلميَّة والثورة العلمية الأوربية، والانقلاب على الكنيسة!

وقد استوردَت تيارات التغريب "داءَ" الصراع بين العِلم والكنيسة وعمَّمتها على كلِّ الأديان! ثمَّ استوردَت "الدواء" الشَّافي من هذا الصراع ونقلَته إلى المجتمعات الإسلامية، فلقد استوردوا لنا الداءَ والدواء! يقول أرنست رينان Renan في تاريخ الأديان "إنَّ من الممكن أن يضمحلَّ كلُّ شيء نحبُّه، وأن تبطل حريَّة استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن يَنمحي التديُّن، بل سيبقى حجَّة ناطقة على بطلان المذهب المادِّي، الذي يريد أن يحصر الفكرَ الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضيَّة" (1).
 

ومن المفيد الرجوع إلى كتاب "الله يتجلَّى في عصر العلم"، والذي قام بتأليفه نُخبة من العلماء الأمريكيين..، وفي فصل "الأدلَّة الطبيعيَّة على وجود الله"، والذي كتبه "بول كلارنس ابرسولد" قال "قال الفيلسوف الإنجليزي فرانسس بيكون منذ أكثر من ثلاثة قرون: إنَّ قليلاً من الفلسفة يقرِّب الإنسان من الإلحاد، أمَّا التعمُّق في الفلسفة فيرده إلى الدِّين! ولقد كان (بيكون) على صواب فيما ذهب إليه فلقد احتارَ الملايين من الباحثين والمفكِّرين منذ وجود الإنسان على سطح الأرض في كنه العبقريَّة والتدبُّر الذي يتجلَّى في الإنسان وفي هذا الوجود وتساءلوا عمَّا عساه أن يكون وراء هذه الحياة، وسوف تتكرَّر هذه الأسئلة ما بقي الإنسان على سَطح الأرض، وبسبب عمق هذه الأسئلة وروحانيَّتها البالغة فإنَّنا سوف نحاول أن نمسَّها في تواضع دون أن ننتظر إجابةً شافية عنها"(2).

يتبع..
___________________________________________
المصادر:
(1) د. محمد عبدالله دراز- الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان- دار القلم، بدون تاريخ نشر، ص 87.
(2) نخبة من العلماء الأمريكيين -الله يتجلى في عصر العلم- ترجمة: الدكتور الدمرداش عبدالمجيد سرحان، دار القلم، بيروت – لبنان، ص 41.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.