شعار قسم مدونات

وفي البدء.. كانت الزغرودة

blogs - woman
كنت مثلك تمامًا أجلس على طرف سريري كل صباح، أفكر جديًا، متى سأموت؟ ولمَ عليَّ الذهاب يوميًا في نفس الطريق؟ أتساءل هل الأمور التي ترهق أعصابي فعلًا تستحق؟ هل كل الضجيج الذي يحوط الحياة يستحق؟ أطرد أفكاري السوداء، وأعتنق قناعة جديدة كل يوم وأهبط إلى عملي.

أزج الطمأنينة في رأسي، وأدفعها ناحية قلبي دفعًا، أتناول أقراصًا خضراء وأردد "أنا بخير"، "كل الأشياء ستقف في النهاية إلى جانبي" أدمنت تسقيع عقلي بتلك العبارات الرائقة أضحك عندما تخبرني ساخرًا:
إن الدين هو أفيون الشعوب، بل الحماقة وأقراص الأمل هي أفيونها، وحشيشها، وقاتها أيضًا، ألقي إليك بشطيرة مدهونة بالجبن وأثرثر.

خلقت مثلك تمامًا أفرح بالأشياء التي تتسلل إلى حياة الناس يوميًا وبشكل عادي، أظن دائمًا أن أي شيء جيد في هذا الكون يستحقه أي إنسان مهما كان شكله أو لغته، أو طريقة سبكه للأشياء، أي إنسان يستحق إلا أنا، فالآخرون حتمًا أعظم مني وأفضل مني، وأنا ربيبة اليأس لا يستحق سوى التمني..
تضحك..

أنا أخفي عنك سرًا، هل تتذكر المرة التي ذهبت فيها إلى الأوبرا؟
ذهبت قبلك وقتها وعندما عبرت البوابة كدت أموت فرحًا، فأنا لا أستحق كل هذا الجمال، حبست دموعي حتى رفعت المغنية صوتها الجهوري تغني لحنًا لا أعرفه وبدلًا عن انهمار دموعي، زغردت.
واكتشفت وقتها أنني كائن واقعي أواجه الحياة بوجه مكشوف، أو أدركت أنني لا أنتمي إلا إلى جحري، ونجعي وقوقعتي، وتلك الخانة الصغيرة التي أرقد خلالها كل يوم.

أريد أن تعرف أنني فقيرة للغاية، وصامتة للغاية، وتدمع عيني في أقل من ثانية، أنا أريدك أن تعرف أنني أفتقدك للغاية، ومترددة وأنا أسير في موكبك ولا أعرف هل أبكي أم أزغرد..

أنا لست هنا لأندب حظي بطريقة صريحة، وأذكر نفسي طوال الوقت بأن سبب انبهاري هو يقيني في أني لا أستحق أي شيء ومع ذلك تُلقى الأشياء الجميلة على رأسي كقطع الألماس فأركلها بقدمين مشققين أجربين.

أنا لست منحوسة إنما فقيرة طيبة لم ترَ من الكون إلا جوربين مثقوبين، هما أساس العالم وصنوناه، فهل تطلب مني الصمت عندما يتبدل الجوربان بحذائين براقين؟
لا يا صديق أنا لست حزينة أنا فقط أريد مساحةً واسعةً لأزغرد، أصهل سعادة، فأنا حمقاء سعيدة مثقوبة القلب، إنسانة عبقريةٌ حياتية تمامًا.

هيا نلعب لعبة، دعنا نفتش عن معنى الأشياء العادية، هل تعرف ما معني الزغرودة؟ الزغرودة ليست فعلًا فرحًا كما توحي، وتدعي، هي صرخة عنيدة، ومتشنجة،هي وجع متهلل، تقول أنا هنا يا كلاب، أنا أشعر، ولم أعد مخدرة، أنا هنا لستُ مهملةً، ولا آخر الصف أن أعلى من الجميع هنا، كل مرة أرى فيها جدتي تزغرد، أضحك، ثم أبكي بشدة، ربما لأننا نساء الصعيد نخجل من السعادة، تعيبنا النشوة، فما بالك بالرقص، نهتز بجسد مضموم، نتحرك هكذا متمايلات، لا ننفتح أبدًا، نصر على الرقص بقدمين مضمومتين وعجز متهادٍ، نرقص بحزن، فقط انظر لنا ونحن نجرب الفرح داخل غرفة مغلقة، في قلب دوار مغلق، لن تصدق أن من تهتز كنخلة هي جدتي، لن تصدق أن هذه المرأة العجوز الطويلة الممتلئة، أنجبت، هي حكيمة، ومتحشمة ووقورة، حتى في أسعد لحظاتها، هى أم وفقط.

أذكر وأنا صغيرة أن زوجة عمي أخذت القفص المصنوع من الخوص المبطن ببقايا مفرش قطني، وقد مهدته ووضعت فيه الوليد الصغير ثم رفعت القفص على رأسها، وذهبت به تمر من درب إلى درب وهي تزغرد، تنوي فعل ذلك منذ أن أطلق الطفل صرخته الأولى، انتظرت في صبر حتى لا تلسع الصغير حرارة الهجير، شق صوت المؤذن الآفاق، أيقظ القرية النائمة، التي ألهبها الحر، غسلت وجهها، ولكزتني، ثم ضعت الكحل بغزارة وقد شدت خط المرود حتى أصبحت عيناها االسمراون مضيئتان كالشمس.

دفعت الباب خارجة وأشارت لي بجلب كيس الحلوة معي، شدت عليها حجابها، واندفعت تزغرد، كلما مرت عليها امرأة تزغرد، حتى أوشكت حنجرتها على الانفجار، خفت صوتها، وأنا أمشي في أثرها حتى لفحتني الشمس تقريبًا، انتصرت على من قال بأن زوجها لا ينجب، حتى وإن أنجب من أخرى تنافسها، انتصرت حتى مع موت الصبي آخر اليوم.

أنا يا صديقي سعيدة بوجعي وحاجتي وبكومة الثوم المقيدة على حائط شرفتنا، لم لا ؟
وهناك ثمة جمال تهديه الطبيعة لأبنائها الفقراء كما الأغنياء بالضبط .
لا أعرف لمَ ضربات قلبي رتيبة هكذا، فمعلقة أرز، وقطعة دجاج لن تتسبب لي أبدًا في جرعة سعادة أبدية، أنا جل مرامي قطعة من المبدأ.

أنا يا صديقي أرغب في كتف جوار كتفي، وأذن تسمع شكواي، وأزرعها في وجه لا يعيرني بضعَفي، الوقت يمضي وأنا وحيدة مرتاحة لكني وحيدة، ولا أرغب في أن أحب الآن، أنا أرغب في أن أتعرف على وجهي، وعاطفتي، لا رغبة لدي في أن أواجه أي شيء.

فقط أريد أن تعرف أنني فقيرة للغاية، وصامتة للغاية، وتدمع عيني في أقل من ثانية، أنا أريدك أن تعرف أنني أفتقدك للغاية، ومترددة وأنا أسير في موكبك ولا أعرف هل أبكي أم أزغرد..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.