شعار قسم مدونات

مغترب في حالة طوارئ

blogs- الضغوط

لا شك أنّ تحقيق الذات وتحسين المستوى المعيشي ورفع المستوى العلمي والفكري دفع الكثيرين نحو اتخاذ وتنفيذ قرار الاغتراب. ومع مرور الوقت تحول هذا الاغتراب إلى مصدر قلق كبير وعامل ضغط شديد يؤرّق المغترب ويرهق حياته ويتعب صحَّته. فإذا أضفنا ارتفاع مستوى توقعات الأهل والأقارب من هذا المغترب فإننا نضيف عليه ضغطاً على ضغط.
 

وفوق هذا وذاك يضيف كثير من المغتربين على أنفسهم ممارسات عملية ضاغطة، وطريقة حياة معقدة تدخلهم في حالة طوارئ مستمرة تستهلك زهرة صحتهم، وتفني ربيع أعمارهم. ولعلنا في الأسطر القادمة نحاول تحليل هذه الحالة بشكل مبسّط ونطرح فكرة عملية سهلة تساعد في الخروج من حالة الطوارئ المزمنة هذه.
 

بالتركيز على تحديد ما هو مهم وغير مهم، ثم تحديد ما هو عاجل وغير عاجل، نستطيع أن نتحكم فيما يعترضنا من مهام ولا نسمح بأن تكون حياتنا خاضعة للأزمات والطوارئ باستمرار.

إننا حين نلاحظ تصرفاتنا ونتأمل في حياتنا نجد أننا اعتدنا التفكير بعقلية الأزمات، والتعامل بأسلوب الطوارئ، والمتطلبات الفورية العاجلة، حتى أدمنّا الحياة بهذه الكيفية المدمّرة للصحّة والمستهلكة للطاقة. يقول الدكتور جوزيف ف. مونتاغيو "أنت لا تُصاب بالقُرْحَةِ بسببِ ما تتناولُ من طعامٍ، بل بسببِ ما يَأْكُلُك"! وطبقاً لمجلة لايف فإنّ القُرْحَة تأتي في الدرجة العاشرةِ من الأمراض الفتَّاكة. وفي مدينة بوردو الفرنسية، كان يقول حاكمها الفيلسوف مونتين: أرغبُ في معالجة مشاكلكم بيديّ وليس بكبدي ورئتيَّ.

إذن فلماذا نستسلم لحالة الضغوط والقلق في مواجهة المشكلات؟ ولماذا لا نجتهد في محاولة الخروج من حالة إدمان الطوارئ؟!
دعونا نصارح أنفسنا بأنّ السبب الحقيقي وراء إدماننا لحالة الطوارئ أنها تحقق لنا شعوراً مؤقتاً بالسعادة، وتجعلنا نحسّ بأننا مهمين، ومفيدين، وناجحين، وأقوياء. ومع الوقت نصبح عاجزين عن العيش بعيداً عن هذا الشعور الناتج عن تعاملنا مع حالة الطوارئ، لدرجة أننا نستفز كل قوانا عند أيّ مشكلة مهما كانت ضئيلة ونحشد طاقاتنا لمعالجتها وإنهائها، لنخرج منها كالأبطال الفاتحين! وقد حققنا نتائج نفسية واجتماعية رائعة تضمن لنا اعتراف مجتمعنا بنجاحنا، وتمنحنا شعوراً مفعماً بالنشوة والسرور ، ثم يتلاشى هذا الشعور تدريجياً حتى تأتي الحالة الطارئة التالية فنكرر نفس التصرفات لنحصل على نفس الشعور، وهكذا نستنفذ قدراتنا وحياتنا في طوارئ لا تنتهي.

إننا نشعر بسعادة مؤقتة عند حلّ مشكلاتنا الطارئة حتى وإن كانت غير مهمة! فإلحاح الحالة الطارئة يدفعنا إلى العمل الفوري لإنهائها، لأننا نحسّ بأن حركة حياتنا ستتوقف إن لم نستنفر قوانا لإنهاء الحالة الطارئة ظنّاً منّا بأنّ من حولنا يجب أن يرانا مشغولين ومحملين بالأعباء وإلا فلا قيمة لنا، فأصبحت تلك الحالة علامة فارقة في حياتنا، رسّخت فينا أنّ المشغول شخصٌ مهم، ليكون غير المشغول في حرج أمام المجتمع..

فيتعمّق فينا أنّ الانشغال الدائم يمنحنا الأمان النفسي والاجتماعي والعملي، ويوفر لنا الدعم المعنوي والشعبية والسرور والافتخار، فتكون عبارات "أنا مشغول" أو "ليس لدي وقت" أو "أنا مضغوط" أو غيرها أدوات تدعم ذواتنا أمام الناس، وتعطينا متنفساً أمام أنفسنا بتقديم المبررات الوهمية التي تجعلنا نشعر بارتياح متوهّم في ضمائرنا، رغم أنّ حقيقة ما فعلناه انشغالنا بأعمال ليست بتلك الأهمية التي حاولنا إقناع أنفسنا بها، في حين أننا أهملنا الأعمال ذات الأهمية البالغة المرتبطة بعلاقة وثيقة بأهدافنا العليا ومشاريعنا الاستراتيجية التي طالما حلمنا بها في حياتنا الشخصية والعملية.
 

والحقيقة المرّة التي نغفلها في كل أزمة أنّ إدمان الطوارئ يعد سلوكاً مدمراً لحياتنا على المدى البعيد، لأنه يوهمنا بسدّ الفجوة التي تحدثها الحاجات غير المشبعة، ويسيطر على حياتنا، وعلى المناخ الفكري الذي نعيش فيه.. يسري هذا على المؤسسات التي نديرها أو نعمل فيها، فننتقل من أزمة إلى أخرى ولا ننجز إلا الأمور الطارئة حتى ولو كانت غير مهمة! فالأمور المهمة عندنا لم تعد مرتبطة بأهدافنا العليا الاستراتيجية، فتتضاعف الفجوة بين ما نعمله الآن وبين ما يجب أن نعمله لتحقيق أهدافنا العليا؛ فنقع فريسة سهلة للمهام الملحّة العاجلة التي تستدعي الفعل السريع الذي يمنحنا الشعور المؤقت بالسعادة.
 

وهكذا يمرّ العمر وتتبدد كل تلك المشاعر الخداعة، ويأتي الإحساس الحقيقي بالخسارة حين نتذكر المهام الحيوية التي أخطأنا يوم قمنا بتأجيلها، فنكتشف أننا كنا ضحية لحالة طوارئ وهميّة سيطرت على تفكيرنا زمناً طويلاً. لا أشك أنّ بعضنا الآن أطلق لخياله العنان وبدأ فعلاً يتذكر الأهداف العليا التي مضى العمر ولم ينجزها رغم أنها كانت تسيطر على تفكيره في بدايات حياته العملية، وربما يكون قد اتخذ قرار الاغتراب ونفذه لتحقيقها!

دعونا نتوقف عن هذا الخيال مؤقتاً لنتدارك ما بقي من أعمارنا ونعيش الفترة القادمة بطريقة صحيحة هادئة ونبدأ في إنجاز ما نستطيع إنجازه من أهدافنا العليا والاستراتيجية، وقبل كل شيء دعونا نبدأ بإيجاد حلّ عملي ممكن لإدمان حالة الطوارئ التي نحن فيها. إن من الحلول الممكنة لهذه الحالة أن نقوم بتصنيف ما يعترضنا من مهام وأعمال حسب أهميتها الاستراتيجية والتكتيكية بالنسبة لنا وحسب الزمن المفترض إنجازها فيه. وهنا سنجد أنفسنا أمام أعمال عاجلة وغير مهمة، وهذه لا ينبغي أن نشغل أنفسنا بها بل يجب أن نتجاهلها ونخرجها من حياتنا مهما بلغت جاذبيتها..
 

دعونا نمنح أنفسنا وقتاً كافياً للتفكير المتعمق، ولتخطيط حياتنا ورسم معالمها، فهذه هي المهمة الأهم في حياتنا، ولا يمكننا تفويضها لأحد، إذ لا يمكن لغيرنا القيام بها، فيلزمنا القيام بها على أكمل وجه.

وسنجد الأعمال المهمّة والعاجلة وهذه يجب أن ننجزها فوراً وبسرعة، أو نفوّض من ينجزها لنا، ونحذر من تأجيلها حتى لا نزيد من ضغوط المستقبل علينا ولا نضطر للولوج في مربع الطوارئ مرة أخرى. ولكي نشعر بالارتياح الحقيقي والنجاح الفعلي ينبغي أن نركز على الأعمال المهمّة وغير العاجلة حتى ولو اعتقدنا أنها غير ملحّة وغير جذابة، فنعمل على إنجازها بصبر، ونجعلها في مقدمة أولوياتنا؛ لأنها المسؤولة عن تشكيل مستقبلنا الذي ننشده، إذ تساهم في تحقيق أهدافنا العليا، وترفع من مستوى جودة حياتنا وتعطيها معنى لائقاً بها.
 

بهذا التركيز على تحديد ما هو مهم وغير مهم، ثم تحديد ما هو عاجل وغير عاجل، نستطيع أن نتحكم فيما يعترضنا من مهام ولا نسمح بأن تكون حياتنا خاضعة للأزمات والطوارئ باستمرار.
 

وأخيراً دعونا نمنح أنفسنا وقتاً كافياً للتفكير المتعمق، ولتخطيط حياتنا ورسم معالمها، فهذه هي المهمة الأهم في حياتنا، ولا يمكننا تفويضها لأحد، إذ لا يمكن لغيرنا القيام بها، فيلزمنا القيام بها على أكمل وجه، لأن حياتنا تستحق منّا ذلك. وبعون الله سنحقق بإنجازها أفضل النتائج المتناسبة مع إمكاناتنا بأسلوب هادئ سلس، بعيداً عن التوترات والمشكلات النفسية والجسدية؛ فالصحّة من أغلى ما يملكه الإنسان في هذه الدنيا، ومن أصعب ما يمكنه تعويضه إن خسره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.